مناورات بالتقسيط المريح
اللقاء الأخير الذي جمع «ثالوث المصالحة»، حركتي (فتح) و(حماس) والراعي المصري، مطلع شهر آب الجاري، أظهر أن الأطراف الثلاثة داخلة مع بعضها في مقايضات جعلت العملية في ضوئها وفي الإجمال تبدو ليس أكثر من مناورات متبادلة، لا تحمل في طياتها غير الوعود وتنتهي إلى صيغة وحيدة أصبحت معتمدة هي التأجيل.
لقد انتهى اللقاء الأخير، إلى جانب الابتسامات للكاميرات، بوعد حملته تصريحات انطوت على قدر من المصداقية يقل بعد كل لقاء، وبالاتفاق على قضايا سبق الاتفاق عليها في اللقاءات السابقة دون أن يوضع أي منها موضع التنفيذ، مثل إطلاق سراح المعتقلين لدى الجانبين، ثم تأجيل القضايا الأصعب، مثل إعادة هيكلة وبناء مؤسسات منظمة التحرير. لكن ما لفت نظر المراقب في نتائج اللقاء الأخير، أنها توقفت عند مسألتين مهمّتين: الأولى، قيل إنه تم الاتفاق على قضية تعدّ أصعب القضايا الخلافية، وهي قضية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. والمسألة الثانية، تجاهل وعدم التعرض لقضية كان يظن أنها سهلة هي تشكيل الحكومة ورئاستها. بالنسبة إلى المسألة الأولى، معروف أن إعادة هيكلة ودمج الأجهزة الأمنية تفترض الاتفاق على موضوع «التنسيق الأمني» بين هذه الأجهزة ونظيرتها «الإسرائيلية». ومعروف أيضاً أن هذه المسألة منصوص عليها في «اتفاق أوسلو»، وليس من صلاحيات السلطة الفلسطينية أن تنهي هذا التنسيق إلا إذا قررت التخلي عن «الاتفاق»، وبالتالي فإن إنهاءه (وهو ما تطالب به حماس) يعني حل السلطة الفلسطينية، الأمر غير الوارد بالنسبة إلى السلطة حتى الآن (بالرغم من تلميحات عباس وعريقات أكثر من مرة في تصريحات حديثة). أما بالنسبة إلى الحكومة وتشكيلها ورئيسها، فالرئيس عباس لم يتخل عن تمسكه بسلام فياض، ولم يظهر أن موقف (حماس) من هذا الأخير قد تغير، وهو ما جعل الطرفين يتجاهلان الموضوع في لقائهما الأخير.
في ضوء ذلك ليس هناك من يتوقع أن تتحرك قاطرة المصالحة خطوة واحدة حتى موعد اللقاء المقبل، بعد عيد الفطر في أيلول المقبل. هنا يصبح لا بد من سؤال يجب طرحه: لماذا إذاً، كان اللقاء الأخير؟ وماذا كان أصحابه يريدون منه؟ والحقيقة التي لا مهرب منها هي أن غرض اللقاء لم يكن كما يبدو لنا أكثر من مناورة، ولكن السؤال الحقيقي هو: من يناور على من؟ هل هي السلطة وحركة (فتح)، وعلى من أرادت أن تناور؟ أم هي حركة (حماس)، وعلى من كانت تناور؟
حتى لا ننضم إلى «شلة المناورين» يتوجب علينا أن نكون صرحاء صادقين في ما نقول، وعموماً قد نكون مخطئين، لكن هذا على الأقل ما نراه. على هذا الأساس نقول إن الأطراف الثلاثة في معادلة المصالحة ذهبت إلى اللقاء وهي تعرف أنها ذاهبة إلى حفلة من مناورات، وللتوضيح ندخل قليلاً في التفاصيل.
أولاً، بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية وحركة (فتح)، أيلول يقترب ولا يبدو أن محاولات استئناف المفاوضات مع حكومة نتنياهو تجد طريقاً سالكة. ذلك يعني أنه أصبح لا مفر من الذهاب إلى الأمم المتحدة لطلب الاعتراف بدولة فلسطينية. ولأنه سيكون ضاراً جداً الذهاب دون ورقة المصالحة (على أساس أن السلطة تتقدم بطلبها باسم كل الفلسطينيين)، مهما كانت هذه الورقة تبدو مجمدة وغير حقيقية، كان لا بد من «حركة» تذكر المعنيين بأنها لا تزال موجودة. إضافة إلى ذلك، وبهذه الطريقة تكون السلطة الفلسطينية لم تجتز الخط الأحمر الذي رسمه نتنياهو (المصالحة معنا أو مع حماس)، أو ذاك الذي رسمه أوباما (حماس منظمة إرهابية والاتفاق معها مشروط بقبولها شروط الرباعية الدولية). هكذا تكون ورقة المصالحة موجودة على الطاولة دون أن تحمل معنى الاتفاق. هنا يتضح أن مناورة السلطة وحركة (فتح) تستهدف «المجتمع الدولي»، أي الإدارة الأمريكية والأمم المتحدة.
ثانياً، بالنسبة إلى حركة (حماس)، كانت قيادة الحركة قد أيدت فكرة الذهاب إلى الأمم المتحدة، وهي لا تريد أن تظهر كعامل إضعاف لموقف السلطة. ذلك من جهة، ومن جهة أخرى، عودة علاقات الحركة مع مصر إلى التأزم، وتراكم مشكلات قطاع غزة بسبب الوضع في معبر رفح، جعل (حماس) تعمل لتلطيف الأجواء وتحسين العلاقة مع السلطات المصرية، ولا سبيل إلى ذلك غير الاستماع إلى ما تقوله تلك السلطات. ويبدو أن السلطات المصرية كانت وراء عقد اللقاء الأخير. وهكذا يبدو أن مناورة (حماس) تستهدف السلطات المصرية أساساً، والفلسطينيين.
ثالثاً، بالنسبة إلى السلطات المصرية، يتفق الجميع على أن «الإنجاز» الوحيد الذي حققته هذه السلطات يكمن في إطار ما يسمى «استعادة الدور المصري». وإذا أخذنا في الاعتبار عدم اتضاح وجهة الأمور في مصر حتى الآن، ومن أجل تأكيد الحرص على التغيير، كان لا بد من التذكير بهذا «الإنجاز» اليتيم وجمع «الإخوة الأعداء» من جديد، وكانت الطريقة الوحيدة هي الطريقة نفسها التي تم بها جمعهما في شهر آذار الماضي، أي بالتلويح بـ«تسهيلات إضافية» على معبر رفح، وهو ما صرحت به مصادر مصرية يوم 9 آب الجاري.
لهذا نظن، وليس دائماً بعض الظن إثماً، أن ما جرى منذ آذار الماضي وحتى اليوم بين حركتي (فتح) و(حماس) بالرعاية المصرية، ليس أكثر من مناورات الغرض منها شراء الوقت وتحقيق بعض المكاسب التكتيكية البسيطة، مناورات تتم بالتقسيط المريح لكل الأطراف.