ديون واشنطن وعدوانيتها

يشير التخبط الحزبي السياسي الأمريكي في إدارة أزمة الديون الأمريكية إلى أن واشنطن ونظامها الرأسمالي المأزوم ستوغل أكثر وأكثر كعادتها في آليات «تصدير الأزمة» وخلق بؤر توتر جديدة في العالم بما يكفل تشغيل مجمعها الصناعي العسكري وتجارته لتدوير عجلة الاقتصاد  ولو مؤقتاً دون أن يحل ذلك فعلياً مشاكل ضخامة الإنفاق الفدرالي مقابل التضاؤل التدريجي لمستوى الرفاه والاستهلاك الاجتماعي، وإن كانت اليافطة تقليص النفقات «الدفاعية».

وقد أعلن البيت الأبيض في الأسبوع الماضي أن الرئيس باراك أوباما وقع على مشروع قانون خفض العجز ليصبح قانوناً سارياً لخفض الإنفاق وزيادة سقف الدين الأمريكي وتجنب تأخر غير مسبوق في سداد استحقاقات الدين قبل انقضاء المهلة الأخيرة التي حددتها وزارة الخزانة.

وجاء ذلك بعد إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع القانون الذي يتعلق برفع سقف الدين الأمريكي العام بنحو 2.4 تريليون دولار وخفض الإنفاق بأكثر من تريليوني دولار.

وأقر أعضاء المجلس النص بأغلبية 74 صوتا مقابل 26، وذلك غداة إقراره في مجلس النواب. وقد جنب إقرار مجلس الشيوخ مشروع القانون الولايات المتحدة إمكانية أن تعجز عن الوفاء بالتزاماتها للمرة الأولى في التاريخ قبل ساعات من المهلة النهائية لسداد مستحقات.

ويسمح الاتفاق الذي تم التوصل إليه في آخر لحظة بين البيت الأبيض وزعماء البرلمان برفع سقف الدين الأمريكي الذي بلغ في 16 أيار الماضي حده الأقصى مع 14294 مليار دولار. ويرافق هذا الإجراء استقطاعات في الميزانية تصل إلى 2500 مليار دولار على مرحلتين.

وكان أوباما قال عقب إقرار مجلس الشيوخ لمشروع القانون إن هذا المشروع هو خطوة أولى هامة تجاه ضمان أن تعيش الولايات المتحدة في إطار مواردها المالية، لكن يلزم المزيد لإعادة بناء الاقتصاد الأمريكي.

وأوضح أوباما في بيان بالبيت الأبيض أنه يتوقع «أن يظهر إصلاح ضريبي من المداولات حول لجنة مشتركة جديدة غير حزبية تشكل بموجب التشريع وأنه يلزم لمزيد من خفض العجز وجود «نهج متوازن» يدفع فيه الأكثر ثراء ضرائب أكبر»...

وفي رميه للمسؤولية على شماعات الآخرين قال أوباما أيضاً إن عدم اليقين الناتج عن النقاش بشأن الديون كان عائقاً أمام الأعمال، «لكن الانتعاش الاقتصادي تعطل أيضاً بسبب مشكلات غير متوقعة مثل زلزال اليابان».

زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونل قال «إن هذا القانون لا يحل المشكلة، لكنه على الأقل يجبر واشنطن على الاعتراف بوجود مشكلة»

وقال زعيم الأكثرية في المجلس هاري ريد إنه في الوقت الذي يشهد فيه العالم كثيراً من المشاحنات السياسية، في الأسابيع القليلة الأخيرة، فإن النتيجة التي توصلنا إليها هي نوع من التسوية، زاعماً أن هناك في المبدأ فائز واحد هنا هو الشعب الأمريكي.

أما السيناتور الجمهوري أورين هاتش فقال إنه لا يمكنه دعم التشريع لأنه لا يوفر الحل الكافي الذي يطلبه السوق المحلي. وقال السيناتور الجمهوري راند بول إن أوباما بحاجة لتحمل مسؤولية اقتصاد ساء تحت قيادته.

وستقتطع خطة تخفيض الدين ما لا يقل عن 2.1 تريليون دولار في 10 سنوات، حيث يقدر مكتب الموازنة في الكونغرس أن يساهم هذا القانون بتخفيض عجز الدين بحوالي 917 مليار دولار بين 2012 و2021، فيما سيتم ادخار 1.2 تريليون إضافية من العمل الذي تقوم به لجنة من الحزبين. ويقضي الاتفاق برفع سقف الدين على مرحلتين بحوالي 2.4 تريليون دولار.

وتضمن الاتفاق توفير 900 مليار دولار عبر تحديد سقف الإنفاق، بينها توفير 350 مليار دولار من الميزانية الدفاعية الأساسية، وهو أول اقتطاع دفاعي منذ تسعينيات القرن الفائت.

كما تضمن رفع سقف الدين بـ2.1 مليار دولار على الأقل، ملغيا الحاجة لمزيد من الزيادة حتى العام 2013.

وتضمن أيضا الدخول في عملية للتوصل إلى سن قرار بالكونغرس من شأنه تقليص 1.5 تريليون دولار من الديون، عن طريق لجنة تشكل من الحزبين في الكونغرس.

كما نص على فرض حجز تلقائي لبعض برامج الإنفاق لضمان تخفيض العجز بما لا يقل عن 1.2 تريليون دولار مع حلول العام 2013.

وبلغت الولايات المتحدة سقف الدين المسموح به وهو 14.3 تريليون دولار في أيار الماضي، وقالت إدارة أوباما إن الحكومة ستفشل بالإيفاء بالتزاماتها إذا لم ترفع سقف الدين بحلول الثاني من آب بعدما لجأت الخزانة إلى ترتيبات محاسبية لمواصلة دفع المستحقات..

ومن أجل أن يستمر سقف الدين الجديد حتى نهاية العام 2012 يجب رفعه بحوالي 2.4 تريليون دولار.

وكالة «الصين الجديدة» الرسمية الصينية قالت إن تبني الكونغرس الأمريكي نصاً يسمح بتفادي تخلف الولايات المتحدة عن سداد مستحقاتها فشل في نزع فتيل «قنبلة الديون»، بما قد يؤثر على «مستوى الرفاه لمئات ملايين العائلات في الولايات المتحدة والخارج»، مضيفة أن ما حصل هو فقط تأخير الانفجار الفوري عبر تطويل الفتيل قليلاً.

أما رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين فقد وجه الاتهامات إلى الولايات المتحدة بأنها تتطفل على الاقتصاد العالمي من خلال تجميعها الديون الهائلة التي تهدد النظام المالي العالمي، داعياً إلى أن تكون هناك «عملات احتياط أخرى» إلى جانب الدولار.

وأشار بوتين إلى أن «الولايات المتحدة بلد يعيش على الديون، ولا يعيش ضمن إمكانياته، ويحيل بثقل المسؤولية على الدول الأخرى ويتصرف بشكل من الأشكال مثل الطفيليات».

ولفت إلى أن «واشنطن ربما فكرت في إعلان التخلف عن السداد لإضعاف الدولار وخلق ظروف أفضل لتصدير بضائعها»، مضيفاً «ولكن كان لديهم ما يكفي من المنطق والمسؤولية» لتجنب حدوث ذلك، موضحا أن الاتفاق حول الدين الذي أعلنه أوباما «لم يكن عظيماً بشكل عام، ولكنه يؤجل تبني حل أكثر منهجية».

وكان قادة المال والأعمال حذروا من أن التخلف عن السداد قد يضر بالنمو الهش الذي يشهده الاقتصاد الأمريكي والذي ما زال يعاني من نسبة بطالة مرتفعة تقدر حاليا بـ9,2% بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.

ولو لم يتم التوصل إلى الاتفاق لكانت الحكومة الأمريكية ستكون أمام خيارين إما التخلف عن سداد الديون وإما وقف تمويل برامج اجتماعية لمساعدة الفقراء والمعوقين والمسنين والمرضى.

صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قالت إن أول جولة في التخفيضات سيتم توزيعها على برامج محلية وعسكرية تصل في مجموعها إلى 917 مليار دولار في السنوات العشر القادمة.

وأضافت أن نصف الاقتطاعات ستأتي من موازنة الدفاع. وسيتم استثناء بعض البرامج الأساسية- مثل برامج الرعاية الصحية وبرنامج المعونات الغذائية وبرنامج الرعاية الاجتماعية- من التخفيضات الآلية.

وأشارت الصحيفة إلى أنه حتى لو استطاعت اللجنة التوصل إلى اتفاق حول التخفيضات، فإن الاقتطاعات لن تكون كافية لأنها لن تصل بأي حال من الأحوال إلى تريليوني دولار، أي نصف المبلغ الذي تحتاج إليه البلاد للسيطرة على الدين.

وأكدت أنه تم حالياً التوصل إلى حل سياسي للأزمة، لكن الأزمة المالية للبلاد ستستمر.

بدورهم أكد مراقبون اقتصاديون أن موافقة الكونغرس باللحظات الأخيرة على خطة لخفض العجز فشلت في تبديد المخاوف من خفض ائتماني ومشاحنات مستقبلية بشأن الضرائب والإنفاق، وسبل الخروج من الأزمة، والتي غالباً ما تكون على حساب الشعوب، بمن فيها الشعب الأمريكي ذاته.