هل تسير مصر إلى المجهول؟
المشهد المصري الآن يعيش مرحلة ارتباكات وتداخلات وتقاطعات تجري كلها في ظروف ثورة تفجرت دون طليعة ثورية تقودها، وذلك بسبب التجريف السياسي الذي جرى نتيجة لسياسات وممارسات النظام القديم، والتي قلصت لأقصى حد دائرة من تمسكوا بالنهج الثوري، ولعبت حتى قوى اليسار من هذه النخبة دوراً هائلاً في حصار القوى الثورية. وهو ما أدى إلى المزيد من تشرذمها. والدفع بجماعات منها إلى مسارب جانبية بفعل المناخ السائد. وساعد ذلك على صياغة المشهد الراهن المتمثل في قفز جميع القوى المضادة للثورة لركوب قمة الموجة الثورية العاتية باعتبارهم ثوريين.
في المناخ السائد الآن المفعم بالخطر المحدق على مصير الثورة ومصير الوطن ذاته، توارى الرئيسي الكامن وراء الأزمة الشاملة في المجتمع، بل قاطرة هذه الأزمة وعمودها الفقري، وضاعت الحلقة الرئيسية التي ينبغي أن يمسك بها الثوريون، وصياغة التكتيكات الملائمة. ومن هنا تحديداً تحول التكتيك إلى استراتيجيات، بكل ما ينتجه ذلك من عدمية.
تتمثل الحلقة الرئيسية في سياسات الاقتصاد الحر، أي الرأسمالية التابعة واللصوصية، والتي لم يكن الفساد في كل مناحي الحياة الاجتماعية– الاقتصادية والوطنية والسياسية وحتى الأخلاقية منتوجاً جانبياً لها وإنما كان مصاحبا لها منذ ولادتهما من رحم واحد هو الانقلاب المضاد للثورة منذ أربعين عاماً.
حينما تفجرت ثورة 25 يناير كانت بسبب التناقضات الرئيسية والثانوية، الداخلية والخارجية التي أنتجها ما يسمى الاقتصاد الحر وهيمنة الطبقة السائدة بقسميها داخل السلطة وخارجها، من يرتدون مسوح الدين ومن يرتدون مسوح الليبرالية والعلمانية طالما أن جميعهم يتبنى هذه السياسة الكارثة. ونشير هنا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يهمها إذا كان من يحكم مصر يجلس على سجادة الصلاة أو يجلس على كرسي عرش ذهبي طالما أنه يحمل ويتبني الاقتصاد الحر، وينأى عن سياسات التنمية المستقلة والعدل الاجتماعي ومقاومة الاستغلال والتحرر الوطني ومطلب إزالة الكيان الصهيوني والتعايش معه، ولا يهمه إطلاقا الأصوات الزاعقة المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدل والوطن المفدى وحقوق الفلسطينيين طالما أنها مجرد صيحات دون فعل ولذر الرماد في العيون.
في كل المناقشات الدائرة مثلاً حول الدستور أو حول طبيعة النظام المستهدف بناؤه لا يتطرق أحد إلى نظام الملكية في المجتمع، وكأن الملكية الرأسمالية الكبيرة الخاصة التي هي مصدر كل ما أصابنا من ويلات هي «بقرة مقدسة» لا يجوز الاقتراب منها. أي أن ما يجري الآن هو نفس ما كان يجري قبل 25 يناير من قوى ما يسمى المعارضة الرسمية، أي استهداف مجرد تحسين شروط هيمنة الطبقة البرجوازية المتوحشة والتابعة واللصوصية دون النيل من هيمنتها، أي دون النضال ضدها لتقويضها تماماً وبناء نظام جديد.
الثورة هي هدم القديم وبناء الجديد. ورغم أن هذا الأمر شديد الصعوبة والتعقيد، إلا أنه حتمي، وهو الأمر الذي تعيق القوى المضادة للثورة انجازه، مثلما يعيقه غياب الطليعة التقليدية للثورة التي لابد من حل معضلة غيابها حتى لا يضيع كل شيء.
القوى المضادة للثورة:
يمكن تحديد هذه القوى ولو في خطوط عامة، وهي قوى واسعة الانتشار في داخل مصر ومدعومة من قوى إقليمية، ودولية امبريالية وصهيونية، وهي تمتلك خبرات متراكمة في مواجهة قوى الثورة، وتستخدم جميع الأساليب لبلوغ أهدافها. أهم هذه القوى:
الطبقة السائدة التي تبلغ نسبتها 5% من السكان يستأثرون بحوالي 80 % من الثروة. كان يتمترس جزء منها في السلطة السابقة، والباقي بجناحيه المدني والديني خارج السلطة، وكان الصراع فيما بين كل هؤلاء يعبر عن مجرد تناقضات ثانوية تحتد أحياناً دون أن تصل لحد الخطر على النظام ذاته. وإذا كانت فلول عصابة الحزب الحاكم سابقاً تعمل على إعادة تنظيم نفسها بوجوه ومسميات جديدة لاختراق الوضع الثوري، فإن محاولات الاختراق جرت منذ الأسبوع الأول بأشكال وتكوينات شتى شملت طواغيت مال ووافدين من الغرب والخليج، ومن أصحاب توجهات فكرية مختلفة ساعدهم الاعلام الحكومي والخاص المحلي والعربي والدولي بشكل لا سابق له. وجميعهم متشبثون بالاقتصاد الحر ومخادعون في أي حوار إذ يتلاعبون بألفاظ مثل عدم أدلجة المواقف بهدف لم الشمل، رغم أن رفض الايديولوجيا هو بذاته موقف أيديولوجي يسعى في الجوهر لتثبيت الايديولوجية السائدة في الاعلام مثلاً وفي أوساطهم ومواقع نفوذهم. ويرتبط بذلك خدعة أخرى مثل «حكومة التكنوقراط» وكأن التكنوقراط بعيدون عن أية إيديولوجية. وللأسف فإن الكثيرين ينخدعون بهذا المنطق الزائف. كما يستخدم الاخوان المسلمون والسلفيون الدين ومصطلح الهوية لتثبيت النظام الاجتماعي القائم نفسه، إلى جانب فتاوى غريبة تحاول استدراج البسطاء بعيداً عن الشأن العام وأهداف الثورة مثل أن أكل لحم الجن حلال وتحريم الاضراب والتظاهر الخ...
الحكومة الحالية ورئيسها الذي لا يمتلك أية قدرات سياسية أو فكرية أو ثقافية أو إدارية على الإطلاق، ويتبنى وحكومته الاقتصاد الحر والانحياز إلى الطبقة السائدة. حيث قام باختيار نائبين له هما حازم الببلاوي أحد منظري الليبرالية الجديدة، والاقتراض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة تمريره، وعلي السلمي، نائبه للشؤون السياسية وهو ليبرالي من قيادات حزب الوفد، وكان قد هدد شباب الحزب بالفصل إذا ما شاركوا في الاحتجاجات التي تمت الدعوة إليها يوم 25 يناير وكانت هي شرارة الثورة. وتعتبر هذه الحكومة رأس حربة قوى الثورة المضادة. ويشيع رئيسها كذباً أنه لا يقوم بأي تصرف إلا بأمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة. غير أن هذا عار عن الصحة، إذ بينما أعلن المجلس منذ شهور عن ضرورة تنقية العلاقات مع إيران وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها، فقد سافر إلى دول الخليج وعبر عن انحياز واضح لها رغم تدخلها في البحرين كما عبر عن موقف معاد لإيران يتنافى مع ضرورة تنقية الأجواء معها، ثم سافر إلى البحرين ليعبر عن التوجه نفسه.
قوة المال الامبريالي والخليجي (السعودي خاصة) وهو ما حول مصر إلى بلد مستباح، وأنتج تكاثراً هائلاً في الجمعيات التي تطلب أموالاً من الخارج كما اعترف الأمريكيون أنفسهم، وبأنهم قد قاموا بتوزيع 240 مليون جنيه في مصر للترويج لليبرالية الجديدة. ونتوقف قليلا عند جماعة 6 أبريل التي تسبب التمويل الأجنبي في أول انشقاق فيها، حيث هجرها مجموعة من خيرة مؤسسيها. وإن كنت لا أتهم الشباب العادي النقي والوطني الذي يسير خلفها، لكن الثابت– رغم الإنكار– أن دائرة ضيقة قيادية بهذه الجماعة دافعت عن التمويل وحصلت على أموال من «فريدوم هاوس» منذ وقت مبكر من نشأتها، وسافر العديد من قادتها إلى الولايات المتحدة وإلى صربيا لتلقي تدريبات معينة. ومن الواضح أن المال الامبريالي والخليجي قد وصل إلى دوائر واسعة تنتمي إلى كافة الاتجاهات السياسية والفكرية في مصر.
غير أن الأهم هو تصاعد الهجوم على الجيش والمجلس الأعلى للقوات المسلحة في الفترة الأخيرة، وبث الكثير من الشائعات ضده، وإنكار أي دور ايجابي له، والذي بلغ ذروته بالتظاهرات الثلاث المتزامنة: في القاهرة قاصدة وزارة الدفاع، وفي الإسكندرية قاصدة قيادة المنطقة الغربية، وفي السويس قاصدة الجيش الثالث، وعمليات الشحن الشديدة للمتظاهرين، والحجة الواهية بأن الهدف هو إيصال رسالة، في حين أن الرئيس المخلوع أطيح به من الميادين. إن ذلك يلقي بشبهات واضحة أن هناك من وقف وراء هذه المظاهرات بهدف حدوث صدام بين الجيش والمتظاهرين. إلا أن الجيش واجه ذلك بقدر عال من المسؤولية والحنكة وضبط النفس.
إن خطورة هذا الأمر تكمن في أن العنصر الوحيد المتبقي من عناصر القوة الشاملة للكيان الوطني، وهو الجيش، مستهدف. فمن هم أولئك الذين يعملون من خلف ستار لتحقيق هذه الكارثة؟ إذ حينما يتم استهداف العمود الفقري للدولة المصرية، فإن ذلك يعني– خصوصاً في ظروف ما يجري في المنطقة والعالم– أن الكيان الوطني قد أصبح في مهب الريح.
إن ذلك يتطلب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي مازلت أرى حتى الآن أن دوره حتمي لإنقاذ الوطن، وأنه قادر على ذلك، وأنه يمر الآن باختبار عصيب لابد أن يثبت فيه انحيازه للثورة وجماهير الفعل الثوري. وإن كنت في ذات الوقت أنتقد البطء الشديد في معالجته لكثير من الأمور مثل المحاكمات وغيرها، ومثل بعض التصريحات غير المدققة أو الانفعالية التي تتضمن أخطاء لا يحتملها الوضع الراهن، فإنه يمكنه– استمراراً للدور التاريخي للجيش المصري في كل العصور، وفي المنعطفات المصيرية– أن يتجاوز الأخطار المحدقة بالمصير الوطني بإجرائين اثنين:
تحديد علني وشامل وصريح ومباشر وبخطوط تتسم بالملموسية لا التجريد لتوجهات المرحلة القادمة تلتقي مباشرة مع أهداف الثورة وطموحات أصحاب الفعل الثوري الذين تجاوزوا 15 مليون ثائر في كل ربوع مصر، بما يوضح آفاق التطور الاجتماعي– الاقتصادي والوطني- القومي والديمقراطي، وفي اتجاه معاكس لما هو قائم وتفجرت الثورة للتخلص منه.
إنهاء ازدواجية السلطة القائمة نتيجة لوجود حكومة تنتمي إلى قوى الثورة المضادة فكراً وعملاً، وتعيين حكومة ثورة تنهض بمسؤولياتها في تطابق مع أهداف الثورة ومع المجلس الأعلى.
هذا ما أراه طريق نجاة الوطن من التمزق والدمار.