بلا أوهام..
في زاوية «أربعائيات» بصحيفة تشرين كتب د.مهدي دخل الله وزير الإعلام السابق يوم 21/2/2007 رأياً فيه اتهام مبطن ومستغرب لكل من يرفض هيمنة قطب الامبريالية العالمية على الشعوب قاطبة والعرب منهم. وقد استنتجنا ذلك من العنوان الذي اختاره د.مهدي لآرائه الجديدة علينا ألا وهو: «لماذا التباكي على ثنائية القطبية؟»
دون أية مقدمات يدخل الكاتب في النتائج ليقول: «في عصر ثنائية القطب خسرنا أولاً فلسطين، ثم بعد عشرين عاماً الجولان والضفة والقطاع وسيناء، واحتل القسم الأكبر من لبنان بما فيه العاصمة بيروت..» ويتابع أنه «بعد انهيار الثنائية سجلنا أول انتصارين ناجزين على إسرائيل في لبنان عام 2000 و 2006، وبدأ الشعب الفلسطيني يحقق إنجازات مدهشة على تراب فلسطين، واتحد اليمنان واستطاع العرب التوصل إلى موقف مشترك في قمة بيروت»..
لن ندخل هنا في سجال حول الأسباب الحقيقية للهزائم أو اختزال نضال الشعوب العربية على مدى قرن كامل فقط بتحرير الجنوب اللبناني، والانتصار العظيم في حرب تموز الماضي، أو حول حقيقة وقيمة ما اتفق عليه العرب في قمة بيوت خصوصاً بعد أن داسته دبابات شارون، وحولته إلى «خارطة طريق» بموافقة أصحاب المبادرة أنفسهم.
من الواضح هنا أن المقدمات الخاطئة تفضي إلى استنتاجات خاطئة. فالمسألة الأساس ليس قضية التباكي على الثنائية، بل في تشوش الرؤية ـ إذا افترضنا حسن النيةـ لدى أولئك القائلين إننا نعيش عصر «القطب الأوحد»، فهذا وهم محض، لأن الصراع الأساسي على المستوى العالمي كان ولم يزل بين الامبريالية والصهيونية العالمية من جهة، وبين الشعوب من جهة ثانية، فهذه هي الثنائية الحقيقية والموضوعية موجودة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وبعده، رغم كل نظريات نهاية التاريخ ومقولات المحافظين الجدد والمستعمرين الجدد والليبراليين الجدد وبعض المحبطين من شيوعيين وقوميين ممن كانوا محسوبين على معسكر الشعوب.
لاشك أن انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان حليفاً للشعوب، وقوتها الضاربة، أدى إلى خلل خطير في ميزان القوى الدولي لصالح أعداء الشعوب، وغير التوازنات بين قطبي الشعوب والامبريالية العالمية. لكن هذا التغيير تبين أنه ليس قدراً لا مرد له، حيث لم يمض عقد من الزمن حتى بدأ قطب الشعوب بالانتقال من مواقع الدفاع إلى الهجوم، حيثما توفرت الإرادة السياسية للمواجهة والمقاومة الشاملة من مارون الراس في الجنوب اللبناني إلى كركاس في فنزويلا!
...وبالعودة إلى بعض ما كتبه د.مهدي، نستغرب ولانوافق على استنتاجه المريب بأنه «من حيث المبدأ لن يساعد الاتحاد السوفياتي على ظهور مقاومة إسلامية في هذه المنطقة، بل ربما لن يسمح بمقاومة قومية...»!
وفي مكان آخر يصل التحليل عند د.مهدي إلى «فرضية» تركها أصحابها منذ زمن بعيد، لخطلها وتناقضها مع الوقائع، ألا وهي: «لو ظهر المشروع الإسرائيلي بصيغة اشتراكية وبتوجهات سياسية متفقة مع هذه الصيغة لوجد دعماً مطلقاً من المعسكر الاشتراكي..»! لايستقيم النقاش أصلاً مع «فرضيات» كهذه، لأن الصهيونية العالمية اندمجت منذ أواخر القرن التاسع عشر بالامبريالية العالمية، وكانت ولازالت أخطر أدوات الامبريالية المتوحشة..
أما من حيث «اتهام» الاتحاد السوفييتي بعدم السماح بقيام مقاومة قومية وإسلامية، سنذكر إن نفعت الذكرى، بتأييد الاتحاد السوفييتي للثورة السورية الكبرى 1925ـ1927 ، واستخدامه حق النقض لصالح استقلال سورية 1946، ودعم مقاومة الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي ودعم الثورة الفلسطينية، وإعادة تسليح الجيشين المصري والسوري بعد عدوان 1967، وحماية سماء مصر بالصواريخ والطائرات قبل الوصول المشبوه للسادات إلى السلطة، ومن ينسى موقف الاتحاد السوفييتي في حرب 1973 وحرب الاستنزاف التي شنتها سورية ضد إسرائيل بعد خيانة السادات وإيقاف الحرب من طرف واحد؟ ومن دعم سورية ولبنان بعد عدوان 1982؟ وأين تدربت كوادر المقاومة اللبنانية في البدايات؟؟ وهل هناك قطع بين النجاحات التي حققتها المقاومة منذ احتلال بيروت، وبين التحرير عام 2000 وهزيمة عدوان تموز 2006؟
دعك يا دكتور مهدي من الاتحاد السوفييتي، ألا تذكر ما كتبه الأستاذ حسنين هيكل عما قاله السادات لضيفه هنري كسنجر يوم 28 تشرين الأول 1973: «هذه آخر الحروب ضد إسرائيل، وأن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا، ولن تقوم قائمة للسوفييت بعد الآن في الشرق الأوسط...»..
لقد صدق المثل الشعبي: «إن بردنا من غطانا»، أي من مثل هؤلاء الحكام المرتهنين لأمريكا والصهيونية، وهم الآن أكثر ارتهاناً مما كانوا في ذلك الوقت، فهم من وصف المقاومة بالمغامرة، وهم من دخل الاحتلال الأمريكي عبر أراضيهم ومياههم وأجوائهم لاحتلال العراق، وهم الآن يؤيدون توسيع رقعة العدوان ضد سورية وإيران ولبنان، وضد المقاومة الفلسطينية. لكن لشعوبنا خيارات أخرى وأهمها خيار المقاومة!
«اليوم لايوجد اتحاد سوفياتي لكن هناك مقاومة» وهذا يؤكد مجدداً استمرار قانون الصراع بين طرفي الثنائية (امبريالية ـ شعوب)، والقول الفصل فيما سيأتي هو التزام خيار المقاومة والتصدي لتحرير الأرض من الاحتلال في الجولان ولبنان والعراق وفلسطين، وإجهاض ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير.. ومن هنا فإن أي حديث عن أحادية قطبية أمريكية إنما يستهدف – ولو بحسن نية – القطب الآخر ومسيرة نهوضه بما يندرج في «الاستباق» عليه، حسب الموضة الأمريكية الدارجة.