ما بعد السقوط البريطاني في مياه الخليج؟
أقامت الحكومة البريطانية والإدارة الأمريكية العالم ولم تقعده، بسبب أسر 15 جنديا من البحرية البريطانية دخلوا إلى المياه الإقليمية الإيرانية، غطى الموضوع على مؤتمر القمة العربية، وعلى موضوع قتل العصابات الصهيونية للأسرى المصريين في سيناء في حرب 1967.
كانت مواجهة حقيقية، أرادتها الإمبريالية الأمريكية وذيلها البريطاني فرصة لكسر حائط المقاومة في الإقليم، كما كانت فرصة للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين لكي يصب أطنان الزيت على النار، لكن النار لم تشتعل.
إرادة المقاومة- بصرف النظر عن ميزان القوى- كانت قادرة على أن تقلب المعادلة رأساً على عقب، وهذا ما تم. كسب نهج المقاومة في المنطقة هذه المعركة، ولكن لا بد من الانتباه إلى أن الحرب لا تزال طويلة، وتصريحات ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي أن حربهم طويلة وقد تمتد «لأربعة عقود» وأنها «صراع وجود»، لكن الانتصار نهائي في حرب كهذه يتحقق بكسب معارك الواحدة تلو الأخرى، النصر هنا عملية تراكمية، النصر هو تحقيق هدف الطرف المقاوم بصرف النظر عن الخسائر وبصرف النظر عما يمتلكه المعتدي من عدة وعتاد وتفوق.
كيف انقلبت المعادلة في هذه المعركة؟
لكي نجيب على هذا السؤال لابد في البداية أن نستعرض مسرح الصراع الذي تجري فيه المواجهة بين الإمبريالية خاصة الأمريكية وذيلها البريطاني والكيان الصهيوني، وبين دول الإقليم. إذ تعاني قوات الأطلسي والأمريكية على وجه الخصوص خسائر يومية متصاعدة في أقصى شرق مسرح المواجهة (أفغانستان) وتغيرت الصورة تماما عما كانت عليه عقب الغزو الأمريكي لها.
وفي العراق يعيش الأمريكيون، والذيل البريطاني جحيما يوميا لايمكن احتماله لفترة طويلة، وفي لبنان حققت مقاومة حزب الله وحلفائه أخطر نتائج في مواجهة تموز، وهي كسر هائل في نظرية الأمن الإسرائيلية يصعب أن لم يستحل إصلاحه على المدى القصير، أما سورية وإيران فإن الصمود والتحدي أصاب العدو الإمبريالي الصهيوني بالهذيان، والمد الشعبي في كافة البلدان العربية المعادي للإمبريالية الأمريكية والبريطانية والفرنسية وللدولة الصهيونية بلغ درجة لم يبلغها من قبل، واهتزت كما لم يحدث من قبل مواقع الطبقات الحاكمة وحكامها المستسلمين في بلداننا العربية.
ويضاف إلى ذلك العزلة التي تعانيها كل من الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية وحكومة الكيان الصهيوني داخل بلدانهم.
هذا هو الوضع حينما تم الحدث حتى تمام الإفراج عن الأسرى.
ونعود إلى الإجابة على السؤال: كيف انقلبت المعادلة؟ وما هي نتائج المواجهة؟
لقد تحددت نتائج المواجهة بالمواقف الإيرانية، وهي مواقف دللت على حنكة وخبرة سياسة هائلة، أزالت مغالطات وأكاذيب روجها الإمبرياليون والصهاينة وتراكمت تلالا على مدى عقود مضت عن المسلمين وعن الحضارة العربية الإسلامية، من ناحية، وألحقت هزيمة بدعاة الاستسلام العرب من ناحية أخرى.
* أولا: ظهرت إيران بمظهر حضاري وإنساني نتيجة تعاملها مع الأسرى ثم الإفراج عنهم، على عكس الانحطاط الإمبريالي والصهيوني إزاء التفاعل مع الأسرى وغير الأسرى أينما حل، وبالتالي فقد ظهرت إيران بما هو نقيض عن ادعاءات الهمجية والعنف وعدم التسامح التي بذرتها الآلة الإعلامية والمؤسسات السياسية الإمبريالية عن العرب والمسلمين.
* ثانيا: أظهرت أمام العالم الغربي أن إيران دولة ناضجة سياسيا، لا تحكمها شخصيات ديماغوجية عالية الصوت لا تمتلك القاعدة المعرفية أو خبرة ممارسة وإدارة الصراع في عالمنا المعقد والعاصف، كما أنها دولة لا تحكم حكما فرديا، بل تحكمها مؤسسات مسؤولة تدرس وتقيس وتحدد ما هو مطلوب وكيف ومتى وأين.
* ثالثاً: أثبتت أنها قادرة على حماية مياهها الإقليمية وأمنها الوطني، وأنها تملك ما يمكنها من ذلك، كما تملك الإرادة لتحقيق ذلك.
* رابعا: أثبتت إيران أن لها دورا إقليميا لا يمكن تجاوزه فهي في النهاية دولة إقليمية فاعلة لا بد ان يحسب حسابها من أي أحد لدى تعامله مع الإقليم، كما لا يمكن إقصاؤها من معادلة الصراع فيه.
* خامسا: أثبتت سورية - وهذا استنتاج هام للغاية - كقطب مواز وحليف لإيران في الذود عن الإقليم، أنها قادرة رغم التطاولات والمقاطعة والحصار من الأعداء والأشقاء أن تفرض حضورها، وأنها القادرة دون غيرها عن أن تكون الوسيط القادر على التهدئة والمؤثر الذي يمتلك الحكمة والقوة، والذي ينبغي أن يحسب له ألف حساب كطرف حاسم في معادلة الصراع.
* سادساً: أنه لا مفر من أن يصمت تيار التبعية والجهلاء الذين ينساقون وراء الترويج لفتن مذهبية والكلام الغث عن «الهلال الشيعي» والخطر الإيراني، ذلك أن إيران في الحساب الأخير ظهير وحليف للعرب، مستهدفة كما العرب مستهدفون، وبالتالي فإنه ينبغي البناء على التحالف السوري الإيراني لإنقاذ المنطقة.
ولا شك أن هذا الحدث قد أنتج حالة من الارتباك في الموقف الغربي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص، ولذلك فقد بدأ التحرك الإعلامي الغربي البريطاني لمحاولة محو أو على الأقل امتصاص النتائج الايجابية وللصورة التي تشكلت لدى الشعوب الغربية عن الإيرانيين والسوريين (والعرب والمسلمين) وأنهم ليسوا محاور شر كما روجوا طيلة سنوات، ولذلك تم الضغط على الجنود الأسرى ليتراجعوا عن الإشادة بالمعاملة الإنسانية الراقية وعن اعترافاتهم على شاشات التلفزيون باختراق المياه الإقليمية الإيرانية، وهي محاولة سوف تستمر أساسا من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
وتجلى الارتباك الأمريكي أيضا في اضطرار رايس لموقف نصف ايجابي من إيران، حيث أعلنت أنها سوف تلتقي وزير الخارجية الإيراني على هامش مؤتمر دول جوار العراق القادم.
لكن ذلك لا يجب أن يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن الموقف الاستراتيجي الأمريكي إزاء المنطقة سوف يتغير، ذلك أن الاستراتيجيات لا تتغير بمثل هذه البساطة، فهي مبنية ومصاغة على أسس موضوعية، تلك الأسس في الحالة الأمريكية هي الأزمة الهيكلية الهائلة التي تعيشها الولايات المتحدة والتي لا يمكن حلها سوى بالتوسع والمزيد من التوسع. وبالتالي فإن التفاؤل بإمكانية عدول الأمريكيين عن مشروعهم ممكن إذا ما جاء الديمقراطيون إلى الحكم هو موقف غير صحيح، فالخلافات بين الجمهوريين والديموقراطيين هي مجرد اختلاف في أسلوب العمل وفي الممارسة (في التكتيك)، أما الهدف الاستراتيجي فهو واحد.
ولذلك فإن الاسترخاء خطأ استراتيجي فادح، والصراع طويل وممتد، لأنه حسبما أعلن ديك تشيني «صراع وجود».
لقد كسبنا معركة (إيران وسورية وقوى التحرر العربي), وعلينا أن نناضل كي نكسب الحرب!