طفح الكيل!!
المصريون غاضبون، كل المصريين باستثناء الطبقة الرأسمالية الغاصبة للثروة والسلطة وخدامهم، فلقد طفح الكيل على مدى سنوات، ومنذ بدأت موجة الخصخصة، أي بيع مصر كانت قمة السلطة تؤكد باستمرار على عدم خصخصة البنوك الرئيسية الأربعة المملوكة للدولة، وهي بنوك: مصر، الأهلي، القاهرة، الإسكندرية. فجأة في العام الماضي تم بيع بنك الإسكندرية في صفقة مريبة وغامضة إلى بنك ايطالي تبين مؤخراً أن إسرائيليين يمتلكون معظم رأسمال هذا البنك الإيطالي (شكلاً)، فما هي هوية بنك الإسكندرية الآن؟!!
كان بنك القاهرة متعثراً في الأعوام الأخيرة بسبب سوء وفساد إدارته المنتقاة حكومياً، والتي قامت بمنح العديد ممن يسمون برجال أعمال قروضاً بالمليارات دون ضمانات أو بضمانات هشة وغير جدية ولم يتم سدادها. وكان عاطف عبيد رئيس الوزراء السابق هو حامي هذه الإدارة علناً والمدافع عن انحرافاتها.
فوجئنا قبل أقل من عامين أن بنك القاهرة قد آلت ملكيته إلى بنك مصر تحت مسمى «الاستحواذ» (!) إنقاذاً لمركزه المالي، وحتى أيام قليلة مضت كانت التأكيدات والتصريحات تصدر تباعاً من أعلى المستويات في السلطة بأن ذلك القاهرة لن يباع.
فجأة وبدون مقدمات تم الإعلان عن بيع البنك وسط تعتيم شديد ودون تقديم أية تفاصيل. وبدأت السلطة وخدامها وأبواقها في الدفاع عن الصفقة الغامضة والمريبة وتقديم حجج تافهة وغير مقبولة مثل: الاستفادة من حصيلة البيع في تغطية عجز الموازنة العامة، إصلاح الهياكل المالية التي تعاني من الخلل في كل من بنك مصر والبنك الأهلي، وأن دراسات قد تمت لموضوع البيع (لا ندري ممن ومتى وكيف ؟).. الخ.
لماذا نهتم كل هذا الاهتمام ببيع بنوك الدولة؟ لأن الموقف بالنسبة للبنوك يتجاوز حتى كونها من أهم مفاتيح الاقتصاد الوطني، ذلك أن رأس المال البنكي «الأجنبي» بوجه خاص لعب دوراً غاية في الخطر والضرر في تاريخ مصر الحديث.
بعد هزيمة محمد علي كان هناك شرطان رئيسيان لدول أوربا المنتصرة لتقويض المشروع، هما: الباب المفتوح في الاقتصاد، وتخفيض عدد الجيش المصري إلى 18 ألف فرد (أي ما يصل إلى أقل بكثير من 10% من عدده). وهكذا بدأ تقويض المشروع الذي كان سيغير وجه وتاريخ المنطقة.
ثم بدأت هجمة الأجانب على مصر بداية من المرابين اليهود والبنوك حتى كافة أنواع اللصوص والمغامرين والنصابين، ودخلت مصر في مرحلة الاستدانة بكل الشروط المجحفة، وتم ارتهانها للدائنين (البنوك الأجنبية وأصحابها اليهود بالذات والمرابين اليهود الذين تسللوا حتى إلى القرى المصرية)، وكان هذا الوضع هو المقدمة لاحتلال مصر المنهكة والمثقلة بالديون في عام 1882، أي بعد 81 عاماً من فشل الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت ورحيلها مهزومة من مصر.
وبعد 75 عاماً من هزيمة الحملة العسكرية الانجليزية بقيادة فريزر التي منيت بهزيمة ساحقة قرب مدينة رشيد من المقاومة الشعبية المصرية أساساً (حيث كان محمد علي يطارد فلول المماليك في صعيد مصر حينما تم الغزو).
وهكذا كان رأس المال البنكي والمرابون اليهود رأس الحربة في التمهيد للاحتلال البريطاني لمصر بعد أن فشلت الجيوش الفرنسية والبريطانية في احتلالها.
في عام 1942 بينما كانت الجالية اليهودية في مصر لا يتجاوز عددها 30 ألف فرد، كانت 50 أسرة يهودية تسيطر على 34% من الشركات المساهمة المصرية وفي طليعتها الغالبية الساحقة من البنوك (من البنك الأهلي والبنك العقاري حتى بنك التسليف الزراعي!!).
حينما قامت ثورة يوليو 1952 كانت أوضاع الوطن والشعب في غاية التردي، وذلك بعكس الأجانب واليهود (مهما كان مستوى معيشتهم) ونخبة النصف في المائة من المصريين.
حينما تم العدوان الثلاثي عام 1956 تم تمصير المصالح البريطانية والفرنسية وعلى رأسها البنوك، أهمها البنك العثماني، وبنك باركليز وبنك يونيون (بريطانية) وبنك الكريدي ليونيه، وبنك الكنتوار (فرنسية) وغيرهم. وأصبح بنك باركليز مملوكاً للدولة تحت اسم بنك الإسكندرية، وأدمج البنك العثماني وبنك يونيون في بنك الجمهورية الذي كان بنكاً جديداً تمتلك الدولة حصة كبيرة في رأسماله. أما بنك الكريدي ليونيه وبنك الكنتوار الفرنسيان فقد أدمجا في بنك القاهرة الذي تأسس في أول الخمسينيات برأس مال مصري.
وفي عام 1959ــ1960 تم تأميم البنك البلجيكي رداً على موقف بلجيكا في جمهورية الكونغو الشعبية، واغتيال المناضل باتريس لومومبا، حيث أطلق على البنك اسم بنك بور سعيد.
وفي عام 1960 كان التحدي داخلياً، إذ تم تأميم كل من بنك مصر والبنك الأهلي رداً على موقفهما الرافض لخطة التنمية الخمسية الأولى، وتهديدهما بطرح ما لديهما من أوراق مالية (وهو في غاية الضخامة) في بورصة الأوراق المالية بما يعني حدوث أكبر حالة إفلاس في تاريخ البلاد.
وفي عام 1961 تم تأميم كل البنوك ضمن عملية التأميم الكبرى ممَّا ضمن سيطرة فعلية على أهم مفاتيح الاقتصاد المصري. وكان ذلك رداً على عجز البرجوازية المصرية ورفضها القيام بأي دور ملموس في تنمية البلاد.
في عام 1974 بدأ السادات فعلياً وبشكل صريح بضرب الخط الوطني التحرري والاجتماعي الذي بدأه جمال عبد الناصر تحت عنوان الانفتاح الاقتصادي. وتم فتح أبواب البلاد أمام هجمة استعمارية امبريالية عاصفة، وكانت البنوك الأجنبية هي رأس الحربة التي اخترقت الاقتصاد المصري وهي المبادرة ببدء الهجمة بطبيعة الحال، أي تكررت مأساة ما حدث في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر. وهكذا حاصرتنا المأساة والمسخرة (تاريخياً وحاضراً).
ثم بدأ في عهد مبارك عصر الخصخصة لبيع كل شيء.
حاولت بقدر الإمكان اختصار العرض التاريخي لدور رأس المال البنكي الخطير في مصر وفي مصيرها، ويمكن الخروج باستخلاصين:
1- إن البنوك الغربية التي يسيطر عليها المرابون اليهود كانوا رأس الحربة في تحقيق ما عجزت عنه الجيوش الأوربية منذ السنوات الأخيرة في القرن الثامن عشر حتى ثمانينات القرن التاسع عشر حيث عبدت الطريق أمام الاحتلال البريطاني الذي استمر لأكثر من سبعين عاماً، فهل نحن بصدد دخول مرحلة أن مصر هي (الجائزة الكبرى)؟!
2– إن البنوك كانت أحد أهم ميادين معاركنا التحررية الوطنية والطبقية، بواسطتها بدأ الاختراق وإرساء الهيمنة الاستعمارية، وبالسيطرة الوطنية عليها بدأ التحرر من الهيمنة، وبالتفريط فيها بالبيع واستقدام البنوك الأجنبية للبلاد تتكرس الهيمنة الاستعمارية من جديد. إن وضعيتها في العملية الصراعية بيننا وبين الاستعمار والامبريالية والصهيونية هي وضعية طاغية وشديدة الأهمية والخطر. وإن علاقتنا بها في كل الأحوال هي علاقات ملحمية.
إن بيع البنوك الوطنية وبخاصة المملوكة للدولة هو كارثة وطنية، علماً بأن هذه البنوك قد تضاعف حجمها في ظل القطاع العام عشرات المرات عما كانت عليه لدى تأميمها، وأسست مئات الفروع التي انتشرت في كل أرجاء الوطن. وفي ظل سلطة البرجوازية النهابة الحاكمة تم استخدامها كأحد أهم آليات تخليق هذه الطبقة وتمكينها من أوسع عمليات نهب بواسطة طبقة لا تمتلك أي قيم شريفة أو أخلاق أو انتماء للوطن. وفي إطار نهب هذه الطبقة وممارساتها اللصوصية حدث ما يسمى بالاختلالات الهيكلية في مراكز هذه البنوك.
إن الاستعجال المفاجئ في بيع بنك القاهرة يأتي في سياق الحرص على إرضاء العدو الأمريكي لتمرير عملية توريث الحكم المرفوضة شعبياً، كما أنها استجابة لمصالح الطبقة النهابة وقيادتها المتمثلة في لجنة السياسات التي تحرص على توريث الحكم لضمان استمرار وتعميق سياسات النهب والتبعية على يد الوريث أمين هذه اللجنة الملعونة وحاميها.
لكن التوريث لن يتم إلا على جثثنا، كما أن الأزمة الشاملة لبلادنا لن تنتهي سوى بكنس هذه الطبقة النهابة وقادتها ورموزها وإلقائهم في مزبلة التاريخ، واستعادة الثروات الوطنية المنهوبة، واستعادة استقلالنا الوطني والعدالة الاجتماعية.
ويبدو أن الشعب المصري سوف يفعلها في الأفق المنظور.