إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

الوافد الجديد.. حذار

عام مضي على انتصار المقاومة اللبنانية في حرب يوليو 2006، التي تمكنت فيها المقاومة من أن تمرغ في الوحل رأس الأفعى الصهيو–أمريكية، وزلزلت الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، وأسقطت تصورات وأوهام القوة المطلقة التي تم زرعها في رؤوس عصابات المستوطنين في كل شبر من فلسطين السليبة. لكن أهم ما أنتجته هذه الحرب العدوانية (إلى جانب نتائج أخرى هامة) ثلاث نتائج حاسمة: الأولى هي انتصار خيار المقاومة، الثانية هي هشاشة الكيان الصهيوني وإمكانية اقتلاعه (كضرورة وجود)، الثالثة هي امتلاك العرب لكفاءة خوض الصراع وإدارته بجوانبه العسكرية والسياسية والإعلامية والنفسية التي جسدها أداء قائد المقاومة السيد حسن نصر الله وحزب الله وكل قوى المقاومة اللبنانية بأساليبها المختلفة.

كان التركيز الشديد على مدى يزيد على عقود ثلاثة هو العمل على محو تراثنا في المقاومة (الموغل في القدم والقديم والحديث) من العقل الجمعي والفردي لشعوبنا، وأنه لا خيار سوى خيار الاستسلام!! وأن الكيان الصهيوني قد تم تأبيد وجوده وسيادته، وأنه لا قبل لنا بخوض الصراع ضده من جديد.
ولذلك تمت محاولة اقتلاع مآثر ضباط وجنود مصر وسورية في حرب 1973 المجيدة وكل مأثرة مقاومة تاريخية من الذاكرة الشعبية. وتصورت الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين أن خطوات قليلة تفصلهم عن المحطة الأخيرة في رحلة الاستسلام العربي الكامل.
تداعيات الانتصار المجيد دفعت بالمشهد في المنطقة إلى وضع نوعي في العملية الصراعية الجارية، وتعمق الفرز إلى حد بعيد اقترب من منتهاه بين شعوبنا من ناحية، وبين الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين من ناحية أخرى. يتجلي ذلك بأقصى سطوع في لبنان وفلسطين، وفي كل بلداننا، وتسطره الأحداث التفصيلية اليومية.
ففي حين تصاعدت المقاومة وازدادت حدة العداء الشعبي للامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني وعملائهم المحليين على مستوى كل بلداننا العربية والبلدان الإسلامية، كما تصاعد الوعي الشعبي بمخاطر مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي أعاقت تمريره انتصارات المقاومة اللبنانية، فإنه على الناحية الأخرى أصيبت الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين بحالة من السعار الشديد، وشرعوا في عملية تصعيد هائلة، وكشفت قوى التبعية عن وجهها الحقيقي وبشكل لا سابق له بعد أن موهت لسنوات طويلة (التطبيع العلني السعودي مع العدو الصهيوني نموذجاً)، فأثبتت أن مصيرها مرتبط عضوياً بالامبريالية والصهيونية ومشاريعهما التي تستهدف وجودنا.
ربما اندهش الكثيرون حينما اطلعوا على مقالي في العدد السابق والمعنون «أطول حروب التاريخ»، وربما شعروا أنه يحمل الكثير من المبالغة، والذي قصدت منه مدى عمق وحدة الصراع وتجلياته الجديدة المعاصرة.
القضية الآن، وإزاء الاطلاع على المشهد الراهن بكامله قد يفسر الأمر، ذلك أنه إزاء الضربات التي أضعفت قوة دفع المشروع الإمبراطوري الأمريكي (المصحوب بالاندماج الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي)، وبالتالي تراجع الهيبة الأمريكية إقليمياً وعالمياً تحت وطأة النجاحات التي حققتها المقاومة عالمياً وإقليمياً. هنا بالتحديد تم نفض التراب عن «المشروع المتوسطي»، وأعطيت له صيغة أكثر تحديداً تجسدت في المبادرة الفرنسية تحت مسمى «الاتحاد المتوسطي» بين شمال البحر الأبيض المتوسط الأوربي وجنوبه وشرقه العربي (بما في ذلك طبعا الكيان الصهيوني).
الامبريالية الأوربية التي تحاول الفكاك من وضعها الراهن كمجرد ظل للولايات المتحدة  تدرك حجم المأزق الأمريكي، وبالتالي  فإنها تجد الوقت مناسباً لحصولها على نصيبها من الكعكة المتمثل في البلدان العربية على ساحل المتوسط، تاركة ما وراء ذلك من بلدان للأمريكيين (أي سايكس– بيكو جديد).
إذن، فنحن أمام مشروعين امبرياليين للهيمنة: «الشرق الأوسط الجديد» و«الاتحاد المتوسطي» وكلاهما سوف يكون الكيان الصهيوني طرفاً أساسياً فيه. وربما يتصور البعض أن هناك اختلافاً كيفياً بين المشروعين، وهذا غير صحيح، لأنهما متطابقان على الأقل إن لم يكن الآن فعلى المدى القصير.
في عقد الخمسينات من القرن الماضي، وفي ذروة حيوية حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، حينما لاحت في الأفق نهاية الوجود الاستعماري البريطاني والفرنسي في المنطقة، كانت قوى اليمين أنصار المشروع الرأسمالي التابع في مصر تروج لمقولة خبيثة مستندة إلى العداء الشعبي لكل من بريطانيا وفرنسا، مضمون هذه المقولة: «إن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لها ماض استعماري في المنطقة» وذلك بهدف استبدال البريطانيين والفرنسيين بالأمريكيين، وذلك بطبيعة الحال يحمل ضمانة هيمنة تلك القوى المرتبطة عضوياً بالمشروع الرأسمالي من موقع التبعية. وبالطبع تجاهل هؤلاء أن الولايات المتحدة هي بذاتها ظاهرة استعمارية ضارية تمددت بالحديد والنار والدم وبالشراء أحياناً.
ربما يعيد التاريخ نفسه!! ففي العقد الأخير من القرن الماضي حينما طرح إسرائيلياً مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، وفي مواجهة المعارضة الشعبية العربية له، طرح على استحياء «المشروع المتوسطي» وبدأت عملية ترويج له خاصة من اليسار المرتد الممول امبريالياً  (أوربياً في الغالب) كما من قوى يمينية أخرى، حيث يشعر كل هؤلاء بصعوبة تمرير المشروع الصهيو–أمريكي الصريح، ولذا فالأفضل تمرير المشروع الصهيو– أوربي المموه. أي  أفضلية المشروع الأوربي الذي يصورونه كمشروع أفضل، وكما لو كانت هناك تبعية أفضل من تبعية، وامبريالية أكثر رقة وظرفا من امبريالية أخرى.
وبالقطع سوف تتصاعد هذه الدعاية الآن باستثمار الرفض الشعبي والكراهية للولايات المتحدة للترويج للوافد الجديد القديم.
لا ينبغي إطلاقا التهاون أو التسامح إزاء الترويج لمشاريع الهيمنة والإلحاق. لا ينبغي التهاون أو الغفلة إزاء محاولات بعث الإمبراطورية الرومانية من جديد كما في مواجهة القادمين من وراء المحيط الأطلسي.
علينا الصمود وتصعيد المقاومة لننهي 23 قرنا من المواجهة في أطول حروب التاريخ. حققنا خلال هذا التاريخ الطويل انتصارات باهرة مثلما واجهنا هزائم  مؤلمة. ولاخيار أمامنا الآن سوى نصر حاسم ينهي هذه الحرب، لأن الهزيمة هذه المرة لن تكون مجرد مؤلمة ولكنها ستكون مميتة.