إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

أطول حروب التاريخ

المعارك تستعر فوق أرضنا، وهي الحرب التي أطلق عليها ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي أنها «حرب عالمية تمتد من باكستان إلى شمال إفريقيا».
في عالمنا العربي وتخومه الإسلامية، تستعر معارك الحديد والنار، في العراق وفلسطين وأفغانستان بالأصالة، وفي لبنان والسودان والصومال بالوكالة، ويجري الإعداد لمدها إلى سورية وإيران، الخ.

لكن باقي الإقليم كله ميدان مفتوح للمعارك، معارك بكل الأساليب والصيغ، لكنها تصب جميعاً في الحرب الشاملة المعلنة علينا من الامبريالية والصهيونية، وهي حرب لاتقتصر على استخدام الحديد والنار، بل تمتد إلى ميادين الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والبني الاجتماعية، والمنظومات القيمية، وسحق الذاكرة الوطنية والقومية والهوية، وإضعاف القدرات الدفاعية، واختراق الأمن الوطني، واستخدام الإعلام كسلاح فعال لتزييف الوعي الشعبي والتمكين من إلحاق الهزيمة بنا لإرساء الهيمنة الامبريالية والصهيونية على الإقليم برمته.
الحرب الشاملة لا تعتمد فقط على قوات ووسائل ومعدات العدو الخارجي، ولكنها تعتمد أيضاً على ميليشيات محلية جري إعدادها والإنفاق عليها، حيث تقوم بما هو مطلوب منها في أية لحظة متى صدرت الإشارة من سيدها المطاع في الخارج.
إحدى المعارك المشتعلة الآن في مصر تدور حول الهوية، وقد ازداد أوارها نتيجة الاقتحام الذي قام به كاتب السيناريو أسامة أنور عكاشة للميدان، بعد أن استقر انتماءه الفكري أخيراً على شاطئ الليبرالية الجديدة بعد إبحار طويل اقترب خلاله من الماركسية والناصرية، وهو الآن أحد المؤسسين البارزين لحزب الجبهة الوطنية المأمول له القيام بدور القطب الليبرالي الآخر في المعادلة الحزبية المصرية (التي عرضتها في مقال سابق).
مضمون ما يتم طرحه الآن من أسامة أنور عكاشة وغيره حول هوية مصر، هو أنها ليست عربية، ولذا ينبغي فض علاقتها فوراً بالعرب (الذين تسببوا لها في كل المآسي)، ويسوق هذا الطرح الخطر وما يخلفه من بلبلة إلى تفكيك السبيكة الاجتماعية للشعب المصري التي نتجت  عن قدرة مصر على تذويب الجميع  داخلها أياً كانت أصولهم العرقية. ولذا تبرز على الفور قضايا الخطة الامبريالية الصهيونية حول ما يطلقون عليه «حقوق الأقليات» حيث يركزون الآن على «النوبيين» و«المسيحيين»، والتي يمكن أن تتمدد في المستقبل إلى سكان سيناء وسكان الصحراء الغربية والواحات، بل إلى سكان الوجه البحري وسكان الصعيد، الخ، أي العمل على تسعير وتشابك الفتنة الطائفية مع فتن أخرى تجري صناعتها على أسس عرقية ومناطقية تسوق مباشرة إلى تشظي ربما يتعمق أكثر فأكثر، وصولاً إلى صيغ عشائرية وقبلية اندثرت منذ عهد بعيد، أي محو مصر التاريخية من الخارطة، وذلك في الوقت الذي تتوحد فيه أوربا التي تضم عشرات القوميات والأعراق واللغات والثقافات، والتي عاشت لقرون طويلة في حروب دموية، في نفس الوقت الذي يتم فيه تدمير أي إمكانية للوحدة العربية من جراء ما تقوم به الامبريالية والصهيونية من ناحية، وما تقوم به النخب الحاكمة التابعة بسياساتها التي تزرع بذور التناقضات بين شعوبنا العربية من ناحية أخرى. وهكذا ينفتح الباب واسعاً أمام مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ولم يكن غريباً أن يخرج رئيس فرنسا الجديد  نيكولا ساركوزي بعملية إحياء لمشروع إلحاق  آخر بعد تطويره وهو «الاتحاد المتوسطي» الذي يستهدف تحقيق إلحاق استعماري لبلداننا العربية ببلدان شمال البحر المتوسط الأوربية، والذي رحبت به حكومات كل من المغرب وتونس في تجاهل للمشروع العربي كحتمية وجود. وهكذا تحولنا من جديد إلى مجرد فريسة يتسابق عليها الضواري.
في التاريخ المصري القديم ومنذ ما يقرب من أربعة آلاف عام ارتبطت مصر بمحيطها الإقليمي (المشرق العربي) كضرورة، وذلك من قبل نشوء الدولة العربية الإسلامية بزمن طويل جداً، كان ذلك ضرورة أمن ووجود لمصر وللمشرق العربي، وتعزز ذلك بعد قيام الدولة العربية الإسلامية. وهذا الارتباط حتمي وضروري الآن أكثر من أي وقت مضى. ولا يجب علينا أن نتوانى مطلقاً عن مواجهة كل محاولات طمس هذه الحقيقة الجغرافية والتاريخية، وأن نعي أن العدو خارجي وداخلي على السواء.
إزاء كل الهجمات (أمريكية وصهيونية وأوربية)، وإزاء مختلف المشاريع (الشرق أوسطية  أو المتوسطية) ينبغي أن نعيد للذاكرة أننا تعرضنا للموجة الأولى من الهيمنة الأجنبية التي جاءتنا من الشمال قبل أكثر من ثلاثة وعشرون قرناً، والتي بدأت بالغزو الإغريقي بقيادة الإسكندر الأكبر للإقليم كله، ثم تلاه الرومان بعد ثلاثة قرون، واستمرت حقبة الهيمنة هذه ألف عام كاملة عانت فيها شعوبنا أبشع أشكال الاستغلال والهوان، أنهاها قيام الدولة العربية الإسلامية. ثم عادوا يحملون صليب السيد المسيح (وهو منهم براء) بعد أربعة قرون من رحيلهم، طردناهم، وفشلوا في العودة لعدة قرون هيمنوا فيها على العالمين الجديد والقديم، واستعصت عليهم منطقتنا إلى أن جاءنا بونابرت مع انتصار أكبر الثورات البرجوازية وتم طرده، فعادوا من جديد يلتهمون بلادنا واحدة إثر أخرى، بينما كنا نرزح تحت وطأة الحكم العثماني المتخلف والمتوحش، إلى أن تمكنوا من زرع الغرب الإمبريالي في الأرض العربية ممثلاً في الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين. وهاهم يعودون من جديد بعد أن أخرجناهم ليستكملوا مع ذلك الكيان خطة التوسع الإمبراطوري، لكن هذه المرة في شكل استعمار استيطاني إحلالي يبيد ويستأصل شعوبنا.
إننا نخوض على مدى ثلاثة وعشرون قرنا حرباً ممتدة، توقفت لفترات، ولكنها تعود من جديد.. إنها أطول حرب في التاريخ البشري كله بين شعوبنا من ناحية، وبين الطبقات السائدة والمتحكمة شمال المتوسط، وحديثاً شمال المتوسط وغرب الأطلسي، بدءً من طبقات ملاك العبيد إلى طبقات أمراء الإقطاع، ثم طبقات طواغيت المال الآن. إذ لم تكن حروبنا ضد شعوب هذه البلدان سواء من العبيد أو أقنان الأرض أو العمال وكل الكادحين الذين كانوا مجرد وقود لحروب يشنها المتحكمون. كنا ولا نزال في حروب تحرير ودفاع.
ان حسم أطول حروب التاريخ لايخرج عن وجهتين: إما أن ننتصر، فنبقى ونتقدم، وإما أن ننهزم فيكون الفناء.
هل نحن مستعدون؟