ماذا خلف استيلاء ساركوزي اليميني على رموز شيوعية فرنسية؟
أثار استحضار الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي خلال لقاء أجراه مؤخراً في غابة بولونيا لاسم المناضل الشيوعي الشاب إبان الاحتلال النازي غي موكيه الكثير من الاستغراب داخل الأوساط الفرنسية ولاسيما أن ساركوزي يميني ويؤسس لميل النخبة الحاكمة في فرنسا نحو الفاشية الرأسمالية حسب توصيف عدد من السياسيين الفرنسيين.
وبطبيعة الحال هناك مستويات عدة لقراءة هذه النقلة الساركوزية التي لا تتوقف فيما يبدو عند حد الاستشهاد العابر بأشخاص من التاريخ الفرنسي، علماً بأنه استشهاد جرى تحريفه بالقول بأن غي موكيه قال إنه قدم حياته لفرنسا في حين أنه أعرب في آخر رسالة له قبل إعدامه «أتمنى من كل قلبي أن يفيد موتي في شيءٍ ما»، ولكن ساركوزي أراد فيما يبدو إسقاط تصريحاته المخادعة هو شخصياً (عندما قال إنه رئيس لفرنسا بأكملها وكل الفرنسيين) على التاريخ الفرنسي ورموزه.
على المستوى الأول يأتي ذلك في سياق محاولة استيلاء قوى اليمين على تراث الحزب الشيوعي الفرنسي المأزوم حالياً والفاقد لدوره الوظيفي من خلال الاستيلاء على رموزه.
وفي هذا السياق يقول جان فرانسوا أوتيه، وهو خراط ميكانيكي، منتسب للحزب الشيوعي الفرنسي منذ 1963 إن هذا الاستخدام لم يكن ممكناً لولا تخلي الأصحاب المفترضين لأفكار اليسار والشيوعية عن رايتها. ويتساءل كيف بوسعنا ألا نلاحظ بأنّ الإعلان لم يثر حفيظة ماري جورج بوفيه، الأمينة العامة للحزب الشيوعي الفرنسي، التي لم تذكّر حتى بالانتماء الشيوعي لغي موكيه؟
ويتابع: تأتي عملية ساركوزي لتذكّر أولئك الذين يعتقدون بضرورة إعطاء شعب فرنسا مجدداً أداةً لنضاله من أجل التحرر من نير رأس المال ويريدون بناء حزبٍ شيوعي للقرن الحادي والعشرين بأنّهم في سباقٍ مع الزمن: كل تأخير يأتي ليصب لصالح تصفية الفكرة الشيوعية.
وعلى المستوى الفكري يبدو أن البرجوازية الفرنسية الكبيرة التي تدرك تماماً التحديات أمامها ما زالت خلافاً لمستجدات واقع الطبقة العاملة الفرنسية، «طبقة بذاتها ولذاتها» وهي تحرص على تضليل العقول حتى النهاية وعلى محو أية إشارةٍ لما كانت عليه حقاً مقاومة الاحتلال من الذاكرة الجماعية. ولقد أدرك مالرو ذلك تماماً حين كتب: «وحدها الطبقة العاملة، بوصفها طبقة، لم تتعاون مع الاحتلال.» ويبدو أن هذه هي الحقيقة التي يريد ساركوزي، الرمي بها نهائياً في أدراج النسيان.
وعلى المستوى الثالث لا تعد خطوة ساركوزي سوى مواصلةٍ لما كانت عليه حملته الانتخابية. إنها تأتي في بلد تستخدم فيه الدعاية السياسية منذ وقتٍ طويل فكرة الثورة والدفاع عن القدرة الشرائية وشعارات عام 1968 لمصلحة رأس المال.
ويقول جان فرانسوا أوتيه إن البرجوازية الفرنسية الحالية تشكل حزباً جديداً هو «حزب الخوف» وشعاره الجديد هو «ساركو فاشو!» أي الفاشية الساركوزية الهادفة إلى مواصلة تحطيم المكتسبات الاجتماعية وإركاع الشعب، لأن هذا الشعار/اللازمة يبث الرعب وبالتالي يمنع تعبئة الفرنسيين وفي مقدمتهم العمال من النزول للشوارع مجدداً في نضالهم ضد خطط إخضاع العمل لرأس المال، ولاسيما أن رأس المال لا يخاف من «النخب السياسية اليسارية»! بل ما يخيفه هو إدراك الشعب لكل قوته، التي أظهرها في الإضرابات المتواصلة ومعارضته لعمليات التسريح ودمج الشركات والتلوث، وعقد الوظيفة الأولى وقبلها رفض اتفاقية ماستريخت الأوربية الخ.
ويتابع أنه من الواضح أن ساركوزي المتلاعب، وهو المدرك جيداً لحدود نفوذه الفعلي، يناور على حد السيف، فيوسع حكومته إلى يسار الكافيار، محاولاً استعادة جان جوريس وغي موكيه. إذ إنّه يناور إلى يساره حقاً، وليس إلى يمينه! يا له من اعترافٍ بالضعف! هل هنالك من يدرك الإمكانيات التي تفتحها قراءة رسالة غي موكيه في المدارس، إذا ما تجرّأ على تذكّر التزامه الشيوعي وراهنية هذا الالتزام؟ ليس مصادفةً أن يكون أول عملٍ لساركوزي بعد توليه منصب الرئاسة هو محاولة القيام بهذه الاستعادة: إنه يعلم أنّ غي موكيه يجسّد قيماً تحمل قيم المقاومة ومكتسبات التحرير وبرنامج المجلس الوطني للمقاومة، لاسيما لدى شباب فرنسا...
وفي المقابل فإن «ساكو فاشو»، هو اعترافٌ بفشل «النخب السياسية اليسارية» العاجزة التي اختارت الجلوس إلى موائد رأس المال، في حين يزداد عدد أولئك الذين يرغمون على الجلوس إلى الموائد الشعبية.
كما تخلت تلك النخب عن واجبها في التضامن الأممي، مفضّلةً التهجّم على كوبا، منارة شعوب أمريكا اللاتينية، التي تصمد قدر استطاعتها أمام أقوى إمبريالية على الرغم من 45 عاماً من الحصار الأمريكي: هل بوش أقل فاشيةً من ساركو؟ ومتى سيجري الحديث عن تناقص متوسط العمر لدى شعوب الاتحاد السوفييتي السابق، «المتحررة من الشيوعية»؟، ومتى سيجري تقييمٌ نقدي لما جرى في بلدان الشرق، أي الخروج من الكذب والافتراء، اللذين لا تمثّل المقابر الجماعية في تيميسوارا وأسلحة الدمار الشامل العراقية إلاّ مثالاً عن قسمها المرئي؟ متى سيجري الحديث عن ملايين قتلى الرأسمالية (قتلى البؤس وأولئك الذين دفعهم الاستغلال المفرط إلى الانتحار، ضحايا حروب النفط والنهب ومن أصيبوا بالأمراض بسبب الأسلحة التي تستخدم اليورانيوم المنضب، الخ)؟ بعد أفغانستان والعراق، هل ستترك الكذبة لتدمي إيران؟ ألم يحن وقت طلب بوش للمثول أمام محكمة جزائية دولية للشعوب؟
ويتساءل أوتيه: هل تسير الأمور على نحوٍ أفضل بالنسبة لشعب فرنسا بعد أكثر من عشر سنوات على بذل كافة الجهود لتصفية الحزب الشيوعي الفرنسي، من الداخل ومن الخارج؟ لا، بل على العكس: لا تمارس السياسة نفسها حين ينال الحزب الشيوعي الفرنسي 20 بالمائة من الأصوات... أو 1.9 بالمائة!
ويخلص إلى القول إنه من الضرورة بمكانٍ إذن إعطاء شعب فرنسا الأداة الشيوعية التي يحتاجها للتحرر من نير رأس المال. وهذا يتعلق بكل شيوعي، أياً يكن تياره الفكري، سواءٌ أكان منظماً أو غير منظم. معاً، في مواجهة من يقومون بتصفية الحزب الشيوعي الفرنسي أينما وجدوا، نتحمل المسؤولية التاريخية في خلق منظمة شيوعية ترتقي إلى مستوى الخوف الذي يثيره شعب فرنسا وشبابه لدى البرجوازية الكبيرة. سيكون التصويت الشيوعي في الانتخابات التشريعية - لصالح المرشحين الذين يدعون لتصويتٍ شيوعي - لحظة فعلٍ وفق هذا المنظور.
رسالة غي موكيه عشية تنفيذ حكم الإعدام به
أمي الصغيرة الحبيبة، أخي الصغير المعبود، أبي الصغير الحبيب،
سوف أموت! ما أطلبه منك، أنت بصورةٍ خاصة يا أمي الصغيرة، هو أن تتحلي بالقوة. أنا قوي وأريد أن أكون قوياً مثلما كان أولئك الذين مضوا قبلي. كنت أرغب في العيش بكل تأكيد. لكنني أتمنى من كل قلبي أن يفيد موتي في شيءٍ ما. لم تسنح لي الفرصة لأقبّل جان. لقد قبّلت أخويّ روجيه ورينو. أمّا أخي الحقيقي، فلا أستطيع للأسف تقبيله! أتمنى أن يرسلوا لك كافة أغراضي وأن يستفيد منها سيرج، الذي أعتقد أنّه سيكون فخوراً باستخدامها يوماً ما. أما أنت يا أبي الصغير، فإذا كنت قد تسببت لك ولأمي الصغيرة بالكثير من الآلام، فإنني أحييك للمرة الأخيرة. فلتعلم بأنني قد فعلت ما بوسعي لأمشي على الدرب الذي خططته لي.
وداعٌ آخر لكل أصدقائي، لأخي الذي أحبه كثيراً. فليدرس جيداً ليكون رجلاً في المستقبل.
سبعة عشر عاماً ونصف العام، كانت حياتي قصيرة، ولست أشعر بأي ندم، إلا لأنني سأترككم جميعاً. سوف أموت مع تانتان وميشيل. ماما، ما أطلبه منك، ما أريد أن تعديني به، هو أن تكوني شجاعةً وأن تتغلبي على ألمك.
لا أستطيع خطّ المزيد من الكلمات. أترككم جميعاً، أنت يا ماما، سيرج، بابا، وأنا أقبّلكم من كل قلبي الطفولي.
كونوا شجعاناً!
غي الذي يحبكم
«آخر الأفكار: أنتم يا من ستبقون، فلتكونوا جديرين بنا، نحن السبعة والعشرون الذين سنموت!»
لمحة عن غي موكيه
كان غي موكيه ابناً لنائبٍ شيوعي في الدائرة السابعة عشرة في باريس، اسمه بروسبير موكيه. وبعد حلّ إدوار دالادييه للحزب الشيوعي الفرنسي في أيلول 1939، اعتقل الأب في العاشر من تشرين الأول 1939 وجرّد من منصبه كنائب في شباط 1949 ثم جرى ترحيله إلى الجزائر. كان هنري، شقيق بروسبير، حاجباً في مقر الحزب الشيوعي، وانضم في نهاية صيف العام 1940 إلى الجهاز السري للحزب.
كان غي موكيه طالباً في ثانوية كارنو ومناضلاً متحمساً في الشبيبة الشيوعية. بعد احتلال الألمان لباريس وإقامة حكومة فيشي، بذل غي جهداً نضالياً كبيراً للصق إعلانات في حيه تدين الحكومة الجديدة وتطالب بإطلاق سراح المعتقلين. اعتقل في السادسة عشرة من عمره، في 13 تشرين الأول 1940 في محطة الشرق للمترو على يد رجال شرطة فرنسيين كانوا يبحثون عن المناضلين الشيوعيين، وعذبوه كثيراً كي يدلي باعترافات حول أصدقاء والده.
سجن في فرين ثم في كليرفو، ثمّ نقل إلى معسكر شاتوبريان حيث كان مناضلون شيوعيون آخرون معتقلين.
في العشرين من تشرين الأول 1941، أعدم ثلاثة شيوعيين شباب كارل هوتز، قائد قوات الاحتلال في اللوار السفلية في نانت.
اختار وزير داخلية حكومة بيتان، بيير بوشو، رهائن شيوعيين (18 معتقلين في نانت، 27 في شاتوبريان وخمسة من نانت معتقلين في باريس).
بعد يومين، نصبت أعمدة الإعدام بالرصاص في لاسابليير. استند الرهائن السبعة والعشرون إلى هذه الأعمدة بثلاث مجموعات، رافضين عصب أعينهم، وقدموا حياتهم وهم يهتفون «عاشت فرنسا». كان غي موكيه أصغرهم سناً، وقتل في الساعة الرابعة بعد الظهر.
وبلغ من تأثير إعدام غي على شقيقه سيرج، الذي كان في الثانية عشرة من عمره، أن توفي بعده ببضعة أيام.