محرقة غزّة... إبادة لشعب يقاوم!
لم تكن المجزرة الجديدة التي بدأت قوات القتل الصهيونية بتنفيذها منذ صباح الأربعاء في السابع والعشرين من الشهر المنصرم، هي الأخيرة في مسلسل الجرائم الوحشية التي ارتبطت بالحركة الصهيونية منذ أن وطأت أقدام أول الحاملين لأفكارها العنصرية/الاحتلالية/الإقصائية في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي أرض فلسطين، لكنها الأكثر تعبيراً عن مضمون الكيان/الثكنة الذين يعيد إنتاج «الهولوكست» كما عبّر عنه ميتان فيلنائي نائب وزير الحرب الصهيوني مؤخراً. وإذا كانت عملية «الشتاء الساخن» قد أنجزت مرحلتها الأولى بالأشلاء المتناثرة للأطفال والنساء والشيوخ والمقاتلين الأبطال، فإن مصيرها سيكون الفشل، كما حصل في عملية «الشتاء الحار» التي شهدتها مدينة نابلس الصامدة قبل عام تماماً. إذ لم تستطع قوات العدو البرية أن تحقق أي تقدم فعلي على الأرض، رغم كثافة قصف طائرات الفانتوم والآباتشي، وقذائف المدفعية والدبابات، وصواريخ أرض- أرض، التي أدت إلى سقوط مائة وتسعة وعشرين شهيداً أكثر من نصفهم من المدنيين- أربعين طفلاً وعشر نساء- وحوالي ثلاثمائة وخمسين جريحاً، أكثر من ثلاثين منهم في غرف العناية المركزة، ومعظمهم من الأطفال والنساء. كما ألحقت دماراً واسعاً في المباني والممتلكات العامة والخاصة.
لم يكن العدوان الجديد مفاجئاً! فالتمهيد الإعلامي في صحف العدو ترافق مع حركة نشطة للدبلوماسية التضليلية التي تقودها تسيبي ليفني المتدربة لسنوات عديدة في الموساد، من أجل وضع العالم أمام المرحلة القادمة التي ستمارس فيها حكومة العدو سياسة «الدفاع عن النفس» في مواجهة الصواريخ. هذه السياسة الكاذبة، التي تفضحها عمليات الاغتيال والقتل في نابلس ومخيماتها، وجنين والخليل وبيت لحم، التي لاتنطلق منها أية صواريخ. لكن اللافت لنظر المراقبين، كانت التصريحات التي أدلى بها محمود عباس مؤخراً- قبل أيام من العدوان الأخير- لصحيفة «الحياة» اللندنية، والتي تحدث بها عن (وجود لتنظيم القاعدة في غزة، وقد تم بالتنسيق مع حماس) الذي فسره المراقبون على أنه (دعوة لاجتثاث القاعدة وحلفائها بالقطاع). وقد جاءت تصريحات «مالكي رام الله» الأخيرة أثناء المعارك، في تبريره للعدوان بسبب «سقوط الصواريخ الغبية، التي لاتعدو كونها ألعاباً نارية»، لتؤكد أن حفنة المهرولين في تلك المقاطعة، قد انتقلوا من كونهم أجراء لمنظمات «الأنجزة» المشبوهة، إلى عبيد وخدم عند «السّيد» الأمريكي/الصهيوني.
لقد أدت المواجهات الضارية التي خاضتها القوى المقاتلة وفي مقدمتها (كتائب الشهيد القسام، سرايا القدس، كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، ألوية الناصر صلاح الدين، كتائب شهداء الأقصى) مع القوات الغازية، خاصة مع «لواء النخبة/غفعاتي» في جباليا وحي التفاح وجبل الكاشف،- اعترف العدو بسقوط عدة قتلى وجرحى من قواته- وبلدة الشوكة شرقي مدينة رفح، إلى وقف تقدم هذه القوات، واضطرارها أثناء فشلها في تحقيق تقدمها، إلى اقتحام البيوت ونهبها- سرقة مصاغ النساء والأموال- وحجز المدنيين في ظروف لاإنسانية لساعات عدة، والإبقاء على الجرحى ينزفون أمام أعين عائلاتهم حتى الموت، مما يعني عجز هذه القوات عن تحقيق أهداف الحملة العسكرية، التي يتشدق بها قادة العدو «أولمرت، باراك، ليفني» والمحددة بـ(وقف الصواريخ، وتغيير الوضع الإداري والسياسي...). فصواريخ «غراد» التي أطلقتها كتائب القسام وسرايا القدس وأبو علي مصطفى على مدينة عسقلان ناهيك عن مستعمرة سديروت ومثيلاتها في النقب، طوال أيام الهجوم الجوي والبري، وبعد انكفاء الدبابات والآليات خارج القطاع في محاولة «إعادة انتشار» للقوات، و«إعادة تقييم» للأداء وللنتائج التي رافقت الحرب المفتوحة على غزة، أكدت قدرة المقاومة على الاستمرار في أصعب الأوقات، وهو ماأكده وزير الأمن الصهيوني «آفي ديختر» خلال جلسة حكومة العدو الأسبوعية (إن الجيش وبعد خمسة أيام من المعارك لم يتمكن من تحقيق غايته المتمثلة في وقف إطلاق الصواريخ).
أما الرغبة في إحداث «التغيير» بمعناه المباشر والمعلن، إنهاء الوضع القائم في غزة، من خلال الرهان على تحقيق ضغط شعبي- تحت ضربات القتل الوحشية، وسياسة الأرض المحروقة، المرتبطة بتشديد الحصار والعزل- يفرض على «حماس» وقوى المقاومة المقاتلة، الخضوع لـ«خطة الطريق» التي تبدأ أولى الخطوات نحوها، بالتفاهم مع «سلطة رام الله المحتلة» على أرضية اشتراطاتها، فهو مارفضته جماهير غزة- التي كانت تلملم الأجساد الممزقة والغضة لأطفالها- من خلال إصرارها على المقاومة، وإعلان موقفها أمام مراسلي الفضائيات (لو أبادوا الشعب الفلسطيني، ولو قضوا علينا كلنا، فإن شبلاً واحداً منا سيكمل الطريق ويقضي عليهم). أمام هذا الواقع الذي رسمته التضحيات والبطولة والإصرار، لجأت سلطة رام الله المحتلة، لخطوات متأخرة وناقصة، تندرج جميعها في باب «رفع العتب». فتعليق المفاوضات لايقدم ولايؤخر، فهو لغو دون مضمون ولايخرج عن وصفه، كما جاء على لسان أحد المواطنين بـ«التعليك»! لأن لغة البيان الصادر في الثاني من هذا الشهر عما يسمى بـ«اللجنة التنفيذية للمنظمة» توضح حقيقة المواقف، والتي جاءت إعادة إنتاج لكلام التحريض والإقصاء الذي تكرره سلطة رام الله.
إن ارتدادات الهزة التي أحدثتها صواريخ القصف الصهيوني لغزة، والانعكاسات التي أحدثها القتال والصمود الأسطوري للشعب هناك، أعادت جميعها تحريك الحالة الجماهيرية في الضفة- كنت قد أشرت في مقالات سابقة، من أن بوادر انتفاضة جديدة ومتجددة بدأت تلوح في الأفق- فدماء المتظاهرين المتضامنين مع غزة، في الخليل وقراها، والقدس وبيت لحم وجنين ورام الله ونابلس والمخيمات، تشير إلى أن الممارسات الكفاحية- جميع أشكال وأساليب النضال- أصبحت ضرورة ملحة الآن، في الضفة كما في القطاع، من أجل التأكيد على وحدة الشعب في مواجهته للمحتل ومخططاته.