دروس النكبة.. ما أشبه اليوم بالأمس

عندما التقاه في القاهرة عام 1919 أظهر حاييم وايزمان عتبه الشديد على ونستون تشرشل وزير المستعمرات آنذاك قائلاً: «لماذا لم يشمل وعد بلفور أراضي شرق الأردن؟» فكانت هذه الإجابة الصريحة والكاشفة لما تضمره دوائر القرار الاستعماري في بريطانيا: «إن شرق الأردن هو الخزان الذي سيستوعب السيل البشري الفلسطيني من غرب نهر الأردن»! أي اللاجئين الفلسطينيين.

كان كامبل بيترمان رئيس وزراء بريطانيا قد تلقى تقريراً وضعته مجموعة من السياسيين ورجال القانون البريطانيين عام 1910 جاء في أهم توصياته «إن الخطر على الإمبراطورية البريطانية سيأتي من شعوب شرق المتوسط، لذلك يجب زرع جسم غريب وقوي في الجسر البري الواصل بين أفريقيا وآسيا العربيتين».

أوردنا هذين الاستشهادين لنشير إلى أن نكبة اغتصاب فلسطين 1948 لم تكن نتيجة خسارة في معركة، بل هي نتاج مرحلة طويلة جداً من التآمر الاستعماري ظهر للعيان منذ أن أوعزت الدوائر الإمبريالية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر للرأسمال الصهيوني- الاحتكاري بتشكيل «الحركة الصهيونية السياسية» وكانت البداية في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897 بزعامة الصحفي اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل.

ومنذ ذلك التاريخ تحولت بريطانيا زعيمة العالم الرأسمالي آنذاك إلى حاضنة للمشروع الصهيوني قبل وأثناء وبعد تفكك الإمبراطورية العثمانية وبالتالي وضع اليد تدريجياً على ميراثها في الوقت المناسب. ومن هنا نلاحظ أن محطات اتفاقية سايكس- بيكو 1916، ووعد بلفور 2/11/1917 ومؤتمر «سان ريمو» 1920 وإطلاق الانتداب على الدول العربية، كان هدفها وضع اليد مباشرةً على المنطقة وتوزيع جغرافيتها وثرواتها على الدول الاستعمارية بحسب وزن وموقع كل دولة في منظومة الدول الاستعمارية الكبرى، وإذا حصرنا الحديث حول اغتصاب فلسطين والإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في 15/5/1948، لابد من التنويه أنه منذ بدء الانتداب البريطاني على فلسطين عملت بريطانيا وبشكل منهجي منظم على إرساء البنية التحتية لقيام الدولة الصهيونية تحت عباءة الانتداب. ففي خريف عام 1920 تشكلت في فلسطين المحتلة منظمتان صهيونيتان واحدة تحت اسم «الهستدروت» أي اتحاد نقابات العمال اليهود، والأخرى منظمة «الهاغاناه» الإرهابية بإشراف الضباط اليهود الذين خدموا في صفوف الجيش البريطاني وأبرزهم موشي دايان وايغال آلون، وسرعان ما تحولت «الهاغاناه» إلى جيش مسلح بحيث كانت له صناعة عسكرية خاصة به في أواسط الثلاثينات..

وبالتوازي مع ذلك عملت بريطانيا «ونجحت» على خط إجهاض المقاومة الفلسطينية عبر استمالة الزعامات العربية وخصوصاً من الأسرتين الهاشمية والسعودية وبعض الزعامات الإقطاعية الفلسطينية- السورية- اللبنانية والتي ارتبطت مصالحها بحبل السرة مع الاستعمار البريطاني. وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كان النظام الرسمي العربي آنذاك بأكمله من صنع الاستعمار البريطاني. ومن هنا كانت «نخوة الحكام العرب الخادعة» في حرب 1948 ظاهرها «تحرير» فلسطين وجوهرها تلبية الأوامر البريطانية في القضاء على المقاومة الفلسطينية والتي كان بإمكانها إفشال المشروع الصهيوني اعتماداً على قواها الذاتية ومؤازرة المتطوعين والمقاومين العرب الذين استشهدوا بالمئات دفاعاً عن فلسطين.

كانت بريطانيا تعد الحكام العرب بالبقاء في عروشهم إن هم وافقوا على إخماد المقاومة الفلسطينية ولجم شعوبهم عن المشاركة في القتال ضدها وضد العصابات الصهيونية المسلحة في فلسطين..

.. وهاقد استمرت المعادلة نفسها منذ أن تحولت قيادة العالم الرأسمالي من لندن إلى واشنطن، فما أشبه اليوم بالأمس. فمن تجربة نكبة فلسطين إلى نكبة مصر بمجيء السادات بعد عبد الناصر، إلى نكبة العراق في عهدة صدام حسين أولاً والاحتلال الأمريكي و«دماه» تالياً، ثم نكبة الشعب الفلسطيني بقياداته التي وافقت على التفريط بالمقاومة واللجوء إلى المساومة، وصولاً إلى نكبة الجزيرة العربية والخليج العربي والتي تختزل دوله بأسماء السلاطين والخدم الذين يحكمون باسم الدين والوراثة لمصلحة السيدين الأمريكي والصهيوني!

استبيح العراق واحتل ودمرت دولته عبر الأراضي والأجواء العربية، ولم يدافع عن شرفه إلا من استفاق على زيف الوعود الأمريكية بالتحرير والديمقراطية المحمولة على صواريخ توماهوك والدبابات الأمريكية والتي واكبتها مجموعة من العملاء..

وعلى أرض فلسطين حيث احتشد زعماء الإمبريالية أمثال بوش، براون، ساركوزي، ميركل.. الخ، احتفالاً بذكرى اغتصاب فلسطين وتهجير غالبية الشعب الفلسطيني هناك مقاومة باسلة وشعب صامد يواجه الحصار والقوة العسكرية الصهيونية الغاشمة باللحم الحي التزاماً بخيار المقاومة الشاملة حتى انتزاع الحقوق الوطنية كاملة.

... وفي لبنان البطولات والمآثر تتعرض المقاومة التي حققت أكبر انتصارين على العدو الصهيوني لا مثيل لهما منذ ستين عاماً، تتعرض إلى أضخم وأوسع حملة تشويه ممولة بمئات ملايين الدولارات من دول «الاعتلال العربي» ودوائر الاستخبارات الإمبريالية- الصهيونية. لكن هذه الحملة سترتد على مروجيها هزيمة مدوية، خصوصاً أن المقاومة اللبنانية البطلة لا ترى لنفسها عدواً سوى التحالف الإمبريالي- الصهيوني ومن والاه من العملاء. ويكفي المقاومة شرفاً ما قاله سفاح العصر جورج بوش: «إن الديمقراطية اللبنانية ممثلة بفريق 14 آذار ضمانة لأمن إسرائيل» فهل تكفي الوقاحة أن يقارن البعض بين حكومة فؤاد السنيورة وبين المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله التي قدمت آلاف الشهداء دفاعاً عن لبنان وعن شعوب هذه المنطقة المستهدفة أمريكياً وصهيونياً بالتفتيت عبر تسعير الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية؟!