المجاعة العالمية: الإمبرياليَّة تحاول «اجتثاث الفقراء »!
تعاني البشرية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أزمةً اقتصاديةً واجتماعيةً لم يسبق لها مثيل، تؤدي إلى إفقارٍ سريع لقطاعاتٍ واسعة من سكان العالم. انهيار اقتصاداتٌ وطنية واستشراء للبطالة. انتشار مجاعاتٌ على المستوى المحلي في إفريقيا جنوبي الصحراء، وفي جنوب آسيا وأجزاء من أمريكا اللاتينية. عولمة الفقر تلك، والتي كانت ارتداداً كبيراً عن إنجازات تصفية الاستعمار ما بعد الحرب، تزامنت في العالم الثالث مع اندلاع أزمة الديون في مطلع ثمانينات القرن الماضي وفرض إصلاحات صندوق النقد الدولي الاقتصادية المهلكة.
يعتاش النظام العالمي الجديد على الفاقة البشرية وتدمير البيئة الطبيعية. كما يولّد التمييز العنصري ويشجع النزاعات العرقية ويقوّض حقوق النساء، وغالباً ما يدفع البلدان إلى مجابهاتٍ مدمرة. ومنذ تسعينات القرن الماضي يشدّد قبضته على كلّ مناطق العالم الرئيسية ومن ضمنها أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وبلدان الكتلة السوفييتية سابقاً والبلدان الصناعية الحديثة في جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى.
تتسبب الأزمة العالمية الراهنة بدمارٍ أشدّ مما فعله الكساد العظيم في ثلاثينات القرن المنصرم، ولها عواقب جيو استراتيجية بعيدة المدى؛ ترافقت الاضطرابات الاقتصادية مع اندلاع حروبٍ إقليمية وتفكيك المجتمعات الوطنية، وفي بعض الحالات تدمير بلدانٍ برمتها.
اضطرابات الجوع
المجاعة هي نتيجة لمسار إعادة هيكلة «حرية السوق» على مستوى العالم، والتي تمتد جذورها إلى أزمة الديون مطلع ثمانينات القرن الماضي. وهي ليست ظاهرةً حديثة كما تفترض تقارير الإعلام الغربي، التي تركّز على عرض وطلب المنتجات الزراعية على المدى القصير، في حين تموّه على الأسباب البنيوية الأوسع للمجاعة العالمية.
الفقر وسوء التغذية المزمن هما شرطٌ سابق الوجود. أما زيادة أسعار الغذاء الأخيرة، فقد ساهمت في إثارة الأزمة الغذائية وتأجيجها. تصيب ارتفاعات الأسعار السكان المفقرين الذين يملكون بالكاد وسائل البقاء.
اندلعت اضطرابات الجوع في كل مناطق العالم الرئيسية.
ارتفعت أسعار الغذاء في هاييتي بمعدّل 40 % في أقل من عام، كما تضاعفت أسعار منتجات مثل الرز... في بنغلادش (أواخر نيسان 2008)، اندفع 20 ألفاً من عمال النسيج إلى الشوارع لشجب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمطالبة بزيادة الأجور. تضاعف سعر الرز في البلد خلال العام الماضي، مهدداً العاملين الذين لا يتجاوز أجرهم الشهري 2.5 دولاراً أمريكياً بالجوع. في مصر، هزت احتجاجات العمال على ارتفاع الأسعار مركز صناعة النسيج في المحلة الكبرى شمال القاهرة لمدة يومين وأسفرت عن سقوط ضحيتين بسبب إطلاق قوات الأمن للرصاص، واعتقال المئات، كما أرسلت الحكومة عناصر الشرطة لإكراه العمال على العودة إلى العمل. وقد ارتفعت أسعار الأغذية في مصر بمعدل 40 % في العام الماضي. وفي ساحل العاج، زحف الآلاف على منزل الرئيس لوران جباغو وهم يهتفون: «نحن جياع» و«المعيشة غالية جداً، ستقتلوننا».
كما اندلعت تظاهرات وإضرابات واشتباكات في بوليفيا وبيرو والمكسيك والفيليبين وباكستان وأوزباكستان وتايلاند واليمن وإثيوبيا، وفي غالبية بلدان إفريقيا جنوبي الصحراء.
اجتثاث الفقراء
مع وجود قطاعات واسعة من سكان العالم تحت خطّ الفقر، فكل ارتفاعٍ في أسعار السلع الغذائية يسبب دماراً. ملايين البشر حول العالم تعجز عن شراء القوت الذي يبقيهم أحياء.
تساهم هذه الارتفاعات ارتفاعاً حقيقياً في «اجتثاث الفقراء» عبر «الموت بالتجويع». وفق ما قاله هنري كيسنجر: «تحكّم بالنفط تتحكّم بالأمم، تحكّم بالغذاء تتحكّم بالشعوب».
في هذا الصدد، أعلن كيسنجر في سياق مذكرة دراسة الأمن القومي رقم 200 للعام 1974: «نتائج نموّ السكان العالمي على أمن الولايات المتحدة ومصالحها لما وراء البحار، إنّ "تكرار المجاعات قد يشكّل أداةً واقعية للحدّ من الزيادة السكانية».
ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة، فقد ازدادت أسعار الحبوب بمعدل 88 % منذ آذار 2007. وازداد سعر القمح بمعدل 181 % خلال ثلاثة أعوام. وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، ارتفع سعر الرز بمعدل 50 %.
«تمّ بيع الصنف الشعبي من الرز التايلاندي بسعر 198 دولاراً للطن منذ خمس سنوات وبسعر 232 دولاراً منذ سنة. أما في نيسان 2008، فقد ارتفع سعره إلى ألف دولار. والزيادات أعلى في الأسواق المحلية. ففي هاييتي، تضاعف سعر السوق لكيس الرز سعة 50 كيلوغراماً في أسبوعٍ واحد أواخر آذار 2008. تمثّل هذه الزيادات كارثةً لـ2.6 مليار إنسان حول العالم يعيشون بأقل من دولارين في اليوم وينفقون ما بين 60 و80 % من دخلهم على الطعام. مئات الملايين لا يستطيعون تحمّل نفقات الطعام». (المصدر السابق).
بعدان مترابطان
ثمة بعدان مترابطان لأزمة الغذاء العالمية المتواصلة، والتي أصابت ملايين البشر حول العالم بالمجاعة والحرمان المزمن، وحرمت مجموعاتٍ كاملة من البشر من القدرة على شراء الطعام.
أولاً، هنالك مسارٌ تاريخي طويل الأمد لإصلاح سياسة الاقتصاد الكلي وإعادة الهيكلة الاقتصادية عالمياً، ساهما بضغط معايير العيش في طول العالم وعرضه، في البلدان المتطورة والنامية على حدٍّ سواء.
ثانياً، حرّضت هذه الشروط التاريخية السابقة التصاعد الحالي لأسعار الحبوب، الذي أدى إلى مضاعفة أسعار بعض المنتجات الغذائية. هذا الارتفاع نتيجةٌ أساسية للمضاربة بالمنتجات الغذائية.
ضللت وسائل الإعلام الغربي الرأي العام حول ارتفاع الأسعار، في تركيزها على مسائل تكاليف الإنتاج والمناخ وعوامل أخرى، أدت إلى انخفاض العرض وساهمت في رفع الأسعار. وفي حين يمكن لهذه العوامل أن تكون قد لعبت دوراً، إلا أنها لاتفسر الارتفاع الخطير في أسعار السلع الأساسية.
إنّ تصاعد الأسعار هو نتيجةٌ أساسية للتلاعب بالأسواق. وهو يعزى إلى المضاربة في أسواق السلع. لقد رفعت عمليات المضاربة في بورصتي نيويورك وشيكاغو أسعار الحبوب. ومن الجدير بالملاحظة أنّ مجلس تجارة شيكاغو وسوق شيكاغو للتبادل التجاري قد اندمجا، مشكّلين أكبر هيئة تجارية للتعامل مع تجارة السلع الأساسية، وتضمّنا بذلك تشكيلةً واسعة من أدوات المضاربة: (خيارات الأسهم، خيارات الأسهم الآجلة، صناديق التمويل، الخ).
تحدث المضاربة على القمح والذرة والرز دون صفقات سلعٍ حقيقية. فالمؤسسات التي تضارب في أسواق الحبوب لا تشترك بالضرورة في بيع الحبوب أو تسليمها. ويمكن أن تجري الصفقات عبر صناديق تمويل السلع التي تسمح بالمراهنة على حركة أسعار السلع الهابطة أو الصاعدة.
«خيار البيع» هو مراهنةٌ على انخفاض السعر، أمّا «خيار الشراء»، فهو مراهنةٌ على ارتفاع السعر. خلال هذا التلاعب المنسق، تقوم مؤسسات التمويل والتجارة برفع الأسعار ثمّ تضع رهاناتها على حركة صعود سعر سلعةٍ بعينها. تؤدي المضاربة إلى عدم استقرار الأسواق. في المقابل، يشجع عدم الاستقرار مواصلة نشاط المضاربة.
تتحقق الأرباح حين يرتفع السعر، وفي المقابل، إذا كانت المضاربة على بيعٍ رخيص في السوق، يتحقق الربح بانهيار السعر.
المضاربة الحالية التي رفعت أسعار الأغذية تغذي مساراً عالمياً يؤدي إلى مجاعةٍ غير مسبوقة في مداها.
غياب الإجراءات التنظيمية يخلق المجاعة
عمليات المضاربة لا تؤدي عمداً إلى المجاعة. فما يسببها غياب إجراءاتٍ تنظيمية تتعلق بعمليات المضاربة. في السياق المالي، سيساهم تجميد عمليات المضاربة على المنتجات الغذائية، كقرار سياسي، في تخفيض أسعار الأغذية مساهمةً فورية.
ما من شيء يمنع تحييد مثل هذه الصفقات وتعطيلها عبر إجراءاتٍ تنظيمية موضوعة بعناية. ومن الواضح أنّ هذا الأمر مخالفٌ لاقتراحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
قدّم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خطةً عاجلة بهدف زيادة الزراعة رداً على «الأزمة الغذائية»، غير أنّ أسباب هذه الأزمة لم تؤخذ بعين الاعتبار.
وصف روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي هذه المبادرة بأنها «خطة عمل جديدة تهدف إلى زيادةٍ طويلة الأمد للإنتاج الغذائي»، تتمثل في ما تتمثل به في مضاعفة القروض الزراعية الممنوحة للمزارعين الأفارقة.
«علينا أن نضع أموالنا حيث هي أفواهنا الآن بحيث نتمكن من أن نضع الغذاء في الأفواه الجائعة». (روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي).
«العلاج الاقتصادي» لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليس «الحل»، بل هو إلى حدٍّ كبير «سبب» المجاعة في البلدان النامية. كلما زادت القروض التي يمنحها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي «لزيادة الزراعة» كلما زادت مستويات المديونية.
تتمثل سياسة البنك الدولي في الإقراض في منح قروض شريطة أن تلتزم البلدان بالأجندة السياسية النيوليبرالية التي ساعدت في مطلع الثمانينات على انهيار زراعة القوت المحلية.
لقد أدّى «تثبيت الاقتصاد الكلي» وبرامج التكييف الهيكلي التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على البلدان النامية (كشرطٍ لإعادة التفاوض حول ديونها الخارجية) إلى إفقار مئات ملايين الأشخاص.
إنّ الوقائع الاقتصادية والاجتماعية القاسية الكامنة خلف تدخلات صندوق النقد الدولي هي السبب في الزيادة المنفلتة في أسعار المنتجات الغذائية والمجاعة على المستوى المحلي وتسريح العاملين الحضريين والموظفين بالجملة وتدمير البرامج الاجتماعية. لقد انهارت القدرة الشرائية الداخلية، وجرى إغلاق عيادات الصحة ضد المجاعة والمدارس، كما حرم مئات ملايين الأطفال من الحق في التعليم الابتدائي.
رفع القيود عن أسواق الحبوب
منذ ثمانينات القرن الماضي، جرى رفع القيود عن أسواق الحبوب بإشراف البنك الدولي واستخدام فوائض من الحبوب مصدرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي استخداماً منهجياً لتدمير طبقة الفلاحين وزعزعة زراعة القوت على المستوى المحلي. في هذا الصدد، تشترط قروض البنك الدولي رفع الحواجز التجارية عن المنتجات الغذائية الأساسية المستوردة، مما أدى إلى إغراق الأسواق المحلية بفائض الحبوب في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد أدت هذه الإجراءات وما يماثلها إلى إفلاس المنتجين الزراعيين المحليين.
إنّ «حرية السوق المتعلقة بالحبوب» والتي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد دمّرت الاقتصاد الفلاحي وقوّضت «الأمن الغذائي». كانت مالاوي وزمبابوي في الماضي بلدين مزدهرين يتمتعان بفائضٍ من الحبوب، كما كانت رواندا مكتفيةً غذائياً حتى العام 1990، وهو العام الذي أمر فيه صندوق النقد الدولي بإغراق السوق الداخلية بفائضٍ حبوب أمريكي وأوروبي، معجلاً في إفلاس المزارعين المحليين. وفي عامي 1991-1992، اجتاحت المجاعة كينيا وشرق إفريقيا، وكلاهما حقق نجاحاً في إنتاج القوت. أدرجت كينيا في القائمة السوداء لأنها لم تمتثل إلى وصفات صندوق النقد الدولي. وقد فرض رفع القيود عن سوق الحبوب كأحد اشتراطات إعادة جدولة دين كينيا الخارجي مع الدائنين الرسميين في نادي باريس. (كتاب ميشيل شوسودوفسكي، عولمة الفقر والنظام العالمي الجديد).
في أرجاء إفريقيا كافة، وكذلك في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، أدى استخدام نموذج «التكييف الهيكلي» في الزراعة تحت رعاية مؤسسات بريتون وودز إلى تدمير الأمن الغذائي بصورةٍ لا لبس فيها. تعززت التبعية للسوق العالمية، مما أدى إلى زيادة استيراد الحبوب التجارية وإلى زيادة تدفق «المساعدة الغذائية».
جرى تشجيع المنتجين الزراعيين على التخلي عن زراعة القوت والتحول إلى زراعات "مرتفعة القيمة" لغاياتٍ تصديرية، غالباً على حساب الاكتفاء الذاتي الغذائي. وقد دعمت قروض البنك الدولي المنتجات المرتفعة القيمة إضافةً إلى الزراعات التصديرية.
مجاعات عصر العولمة هي حصيلة هذه السياسة. فالمجاعة ليست حصيلة ندرة الغذاء، بل هي في الحقيقة عكس ذلك: يجري استخدام الفوائض الغذائية العالمية لزعزعة الإنتاج الغذائي في البلدان النامية.
هذا العرض الفائض الذي تحكم السيطرة عليه الشركات الغذائية الدولية يساعد في نهاية المطاف على ركود إنتاج المنتجات الغذائية الأساسية واستهلاكها، وعلى إفقار المزارعين في كل أرجاء العالم. علاوةً على ذلك، ترتبط برامج التكييف الهيكلي التي يقدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عصر العولمة هذا ارتباطاً وثيقاً مع مسار حدوث المجاعة، بسبب التقويض المنهجي لفئات النشاط الاقتصادي كافة الحضرية منها والريفية التي لا تخدم مصالح نظام السوق العالمية خدمةً مباشرة.
تحصر عوائد مزارعي البلدان الغنية والفقيرة في أيدي حفنة من الصناعيين من قطاع الغذاء العالمي، وهم يسيطرون في الآن ذاته على أسواق الحبوب والإضافات الزراعية والبذور والأطعمة المصنّعة. تسيطر شركة كارجيل العملاقة، بفروعها التي يبلغ عددها 140 فرعاً وشركة عبر العالم، على حصة هائلة من تجارة الحبوب الدولية. منذ خمسينات القرن الماضي، أصبحت كارجيل المقاول الرئيسي لـ"المساعدة الغذائية" الأمريكية التي يمولها القانون العام رقم 480 (1954).
للمرة الأولى في التاريخ، أصبحت الزراعة العالمية قادرةً على تلبية الحاجات الغذائية لكل سكان الكوكب، غير أنّ طبيعة نظام السوق العالمية لا تسمح بتحقيق ذلك. القدرة على إنتاج الغذاء هائلة، لكنّ مستويات الاستهلاك الغذائي تبقى ضعيفةً للغاية، فجزءٌ كبير من سكان العالم يعيش شروط فقرٍ مدقع وحرمان. علاوةً على ذلك، أدى مسار «تحديث الزراعة» إلى تجريد الأرض من أصحابها الفلاحين وزيادة مستوى تدهور التربة والبيئة. بكلماتٍ أخرى، فإنّ القوى التي تشجّع توسيع إنتاج الغذاء عالمياً هي القوى نفسها التي تساعد على تدني مستوى المعيشة وانخفاض الطلب على الغذاء.
صندوق النقد: العلاج بالصدمة
من الناحية التاريخية، تسبب انخفاض قيمة العملات بارتفاع أسعار المنتجات الغذائية على مستوى تجارة المفرّق، وكان ذلك دائماً نتيجةً ثابتة لوضعٍ تضخمي مفرط. على سبيل المثال، في آب 1990 في البيرو، وبأوامر من صندوق النقد الدولي، ارتفع سعر الوقود ثلاثين ضعفاً وسعر الخبز 12 ضعفاً:
"في أرجاء العالم الثالث كافة، الوضع بائسٌ اجتماعياً والسكان أفقرهم تداخل قوى السوق. وقد جرى قمع الاحتجاجات على برامج التكييف الهيكلي وكذلك الانتفاضات الشعبية بقسوة: ففي كاراكاس، في العام 1989، أدان الرئيس كارلوس أندرس بيريز بأسلوبٍ منمّقٍ صندوق النقد الدولي بسبب ممارسته لشموليةٍ اقتصادية لا تقتل بالرصاص، بل بالجوع، ثمّ أعلن حالة الطوارئ وأرسل بانتظام وحدات حربية وكوماندوس من البحرية إلى الأحياء الفقيرة على التلال المحيطة بالعاصمة. وقد اندلعت الصدامات المناهضة لصندوق النقد الدولي في كاراكاس إثر زيادةٍ قدرها 200 % في سعر الخبز. تلقى الرجال والنساء والأطفال دون تمييز طلقات نار: «قيل إنّ مشرحة كاراكاس احتوت 200 جثة لأشخاص قتلوا في الأيام الثلاثة الأولى. تونس، كانون الثاني 1984: لعب الشباب العاطلون عن العمل دوراً أساسياً في اضطرابات الخبز احتجاجاً على ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية. وفي نيجيريا، 1989: أدت الاضطرابات التي ساهم فيها الطلاب احتجاجاً على برامج التكييف الهيكلي إلى إغلاق القوات المسلحة لست جامعات. أما في المغرب، في العام 1990، فقد حدث إضرابٌ عام وانتفاضةٌ شعبية ضد الإصلاحات الحكومية التي رعاها صندوق النقد الدولي». (ميشيل شوسودوفسكي، مصدر سبق ذكره).
البذور المعدلة وراثياً
بالتزامن مع إنشاء منظمة التجارة العالمية في العام 1995، حدث تغيرٌ تاريخي مهم آخر في بنية الزراعة العالمية.
في ظل بنود اتفاقية منظمة التجارة العالمية، أصبح لعمالقة صناعة الغذاء حرية غير مقيدة في دخول أسواق الحبوب في البلدان النامية. كما أنّ استيلاء مصالح الشركات الدولية لتصنيع الأغذية على «حقوق الملكية الفكرية» الحصرية المتعلقة بالأنواع النباتية أباح تدمير التنوع الحيوي.
نيابةً عن حفنة من تكتلات التقنيات الحيوية، جرى فرض البذور المعدلة وراثياً على المزارعين، وحدث ذلك في سياق «برامج المساعدة الغذائية». ففي إثيوبيا على سبيل المثال، جرى توزيع البذور على المزارعين الفقراء في إطار إعادة تأهيل الإنتاج الزراعي عقب جفافٍ عام. زرع الفلاحون هذه البذور وحصدوا غلالاً، لكنّهم أدركوا أنهم لا يستطيعون إعادة زراعتها دون دفع حقوق الملكية. ثمّ اكتشفوا أنّ هذه البذار لايمكن أن تتحول إلى غلالٍ إلا باستخدام الأسمدة ومبيدات الأعشاب والحشرات التي تنتجها وتوزعها شركات التقنيات الحيوية الزراعية. وقع كامل الاقتصاد الفلاحي في قبضة تكتلات الشركات الزراعية.
تحطم الدورة الزراعية
مع التبني الكامل لتلك البذور، حدث تحوّلٌ رئيسي في بنية وتاريخ الزراعة المستقرة، منذ بداياتها قبل عشرة آلاف سنة.
تعرقل إعادة إنتاج البذور على مستوى القرية في المشاتل المحلية بسبب استخدام البذور المعدلة وراثياً. تحطمت الدورة الزراعية التي تتيح للمزارعين الاحتفاظ ببذارهم وزرعه لإنتاج غلالٍ جديدة. وينتقل هذا النموذج التدميري، المؤدي إلى المجاعة لا محالة، من بلدٍ إلى آخر، مؤدياً إلى زوال الاقتصاد الفلاحي عالمياً.
4 أيار 2008