«الحرب» مرة أخرى..
تنعقد خلال آذار القادم القمة العربية في دمشق.. حتى الآن ملك السعودية ورئيس مصر- وبحسب ما نشر- علقا حضورهما للمؤتمر لسبب مدهش(!)، وهو عدم اختيار رئيس جديد للبنان، فيما كانا كقطبين في محور «المعتدلين العرب» يناصرون لأبعد مدى الحكومة العميلة في لبنان التي كرست كل جهودها لإحداث الشلل في الرئاسة اللبنانية بسبب الموقف الوطني والعروبي للرئيس إميل لحود. فالقضية إذن ليست قضية الرئاسة في لبنان.
يتطلب الأمر استعراضاً سريعاً ومختصراً لبعض مفردات المشهد الراهن للصراع الجاري:
فلسطينياً: لم ينل الحصار والتجويع والاجتياح والقتل اليومي من صمود المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، بما فيهم مقاومو منظمة فتح ذاتها. كما سقط تماماً خيار التسويات الاستسلامية بالفشل الذريع لما سمي مؤتمر «أنا بوليس»، ومن ثم فقط انتهت واقعياً كل الاتفاقات السابقة بدءاً من «أوسلو» سيئة السمعة وحتى الآن.
ولم يحقق لهاث محمود عباس الدائم واستجداءاته للعدو الصهيوني ولقاءاته الدائمة مع أولمرت أي شيء له، ولو ورقة توت ذابلة يغطي بها عورة ركوعه المشين. وها هو مؤتمر «فتح» سينعقد بما يحمله من احتمالات للفرز بين المستسلمين والمقاومين في صفوفها.
إن خيار المقاومة قد تأكد وانتصر نهائياً، وهكذا فإن إدارة الصراع من «المنتجعات» والمبادرات المصاغة إسرائيلياً عملية قد ولى زمنها.
لبنانياً: ازدادت المقاومة قوة وتعمقت لحمة الحلف الوطني اللبناني الذي تحول كله إلى مقاومة بجوانبها السياسية والعسكرية، واتسع نفوذه الجماهيري إلى درجات لا سابق لها، بينما تعاني قوى السلطة العميلة من مزيد من العزلة التي تجلت في الحشد الهزيل في ذكرى موت الحريري رغم الحركة المحمومة لجماعة السلطة والإنفاق المالي الهائل الذي تم.
سورياً: نجحت سورية في تجديد وتوسيع قواها العسكرية وتحسين ميزان القوى مع العدو، وذلك بالرغم من الصعوبات الخارجية والداخلية التي تبذلها قوى مضادة عديدة لإضعاف الجبهة الداخلية. ولم تفلح كل الضغوط العربية والإمبريالية خاصة الأمريكية على سورية لفك أو إضعاف تحالفها مع إيران وحزب الله والقوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
في المقابل تتفاقم إلى أبعد الحدود الأزمة الأمريكية داخل الولايات المتحدة، خاصة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وهو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى الإعلان عن خطة لضخ ما يقارب 200 مليار دولار لوقف التدهور الاقتصادي،وهذا سيفاقم الوضع أكثر، إذ أن تشغيل مطابع البنكنوت في الفناء الخلفي لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لا يقدم الحل من المنظور الاقتصادي.
كما تزداد أزمة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق بسبب اتساع المقاومة في كل أقاليمه، بما يشل كل الخطط العسكرية والسياسية الأمريكية والحكومية. كما تتعمق أزمتها في أفغانستان بسبب تصاعد المقاومة الأفغانية إلى أبعد مدى، وهو ما يدفع إلى انسحاب قوات دول عديدة في التحالف الهش من ناحية، وإلى رفض دول الأطلسي زيادة عديد قواتها، بما يشير إلى أن تشققات ملموسة قد بدأت في الظهور في هذا الحلف العدواني. إضافة إلى موقف إيران الحاسم بالنسبة لمشروعها النووي السلمي ونجاحها الواسع في زيادة قدراتها العسكرية والاقتصادية.
أما بالنسبة للكيان الصهيوني فإن تداعيات هزيمته في حرب تموز 2006 لا تزال تفعل فعلها على كل الأصعدة، إلا أن الأهم في وضع هذا الكيان هو سقوط نظرية «ضمان الأمن المطلق» الذي عاش عليها منذ عام 1948، والإدراك المتنامي لسكانه اليهود بأن إمكانية اقتلاعهم من فلسطين قد تأكدت.
أما العنصر الهام الذي ازداد حضوره فهو حركة الجماهير العربية التي تؤيد بحسم خيار المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، والتي لم تعد تخشى قمع حكامها المستبدين، كما لم تعد تتأثر بحمله النظم العميلة من أكاذيب وخداع، وقبل كل شيء وعيها بخطر المشروع الصهيوأمريكي وأنصاره من الطبقات الحاكمة التي تدمر بغير رحمة كل مقومات حياة الشعوب والاستقلال الوطني. وتتعمق وتتفاقم أزمة النظم العربية المستسلمة وتزداد عزلتها في بلدانها.
هذا المشهد العام يطرح بشكل أكثر تحديداً من أي وقت مضى كل من الخندقين، خندق قوى المقاومة والممانعة والقوى الشعبية الوطنية، وخندق الإمبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين.
وإزاء التراجع الذي يحمل طابعاً إستراتيجياً الذي تعانيه الإمبريالية الأمريكية، وعلامة الاستفهام التي لا يمكن التغاضي عنها بالنسبة لمصير الكيان الصهيوني، وإدراك الطبقات الحاكمة في البلدان العربية لارتباط مصيرها بمصير سادتها، وإزاء التقدم الذي يحرزه خندق قوى التحرر المصحوب بتقدم ملموس لقوى التحرر العالمية، فإن ذلك قد يخلق قلقاً وتوتراً بالغاً، وينعكس على السلوك الصهيوأمريكي- الرجعي العربي الراهن.
إن جوهر هذا السلوك هو الدخول في مغامرة يظنون أن فيها النجاة من هزيمة مشروعهم وأن خروجهم من أزمتهم يكمن في التعجيل بشن الحرب.
واتخذ ذلك مسارين:
أولهما الاستفزازات الواسعة، بدءاً من عملية الاستطلاع بالقوة التي تناولتها في مقال سابق، إلى التمادي لأبعد الحدود في قتل الفلسطينيين والتضييق عليهم، وأخيراً اغتيال القائد الفذ والبارز الشهيد عماد مغنية والاستفزازات شبه اليومية لحزب الله وقوى المقاومة اللبنانية إلى آخره، بهدف الاستدراج للحرب وفق السيناريو الصهيوأمريكي.
وثانيهما دفع عملائهم للعمل على المستوى الدولي والعربي ضد قوى المقاومة والممانعة للتعبئة والتحريض ضدها، سواء بالزيارات التي قام بها ولايزال الحريري وجنبلاط وغيرهم إلى أوروبا وأمريكا واللقاء بمختلف المؤسسات والأحزاب والشخصيات السياسية وأجهزة الإعلام، أو جولات وزير خارجية الكيان الوظيفي السعودي للتحريض على المقاومة وسورية وضد عقد مؤتمر القمة العربي في دمشق، إلى تقيؤ أحمد أبو الغيط شبه اليومي، والدعم السعودي المصري بالدرجة الأولى لحكومة السنيورة غير الشرعية، وصولاً إلى الإعلان عن تعليق حضور كل من مصر والسعودية لمؤتمر القمة في دمشق...الخ.
هذا السلوك السياسي بكل مفرداته يعني شيئاً واحداً، هو تهيئة المناخ وإعداد الساحة تمهيداً للحرب القادمة.
لكن هؤلاء الذين فقدوا البصيرة لا يدركون أن هذه الحرب تحمل للمشروع الصهيو-أمريكي الهزيمة المحققة وكذا إنهاء أو على الأقل بداية إنهاء وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، وبالتبعية كنساً نهائياً لقوى الاستسلام التابعة والتي لا تضمن بقاءها سوى باستمرار التبعية والهيمنة الصهيوأمريكية.
استحقاقاً واحداً يجب التأكيد عليه وانجازه، وهو تهيئة الحركة الشعبية العربية ورص صفوفها بشكل جيد، لأن ذلك هو أحد المقومات الضرورية الهامة لتحقيق النصر.