«الجَّزيرة» عند المنعطفات

هكذا وببساطة أصبح «الإسرائيليون»، من مختلف الاهتمامات والمراتب والاختصاصات، يسرحون ويمرحون و«على عينك يا تاجر» في  ميمنة الوطن العربي، الخليج، كما في ميسرته، غالبية دول المغرب العربي! وبعد الممثلية التجارية الإسرائيلية في الدوحة، وحديث قائد شرطة دبي أن «إسرائيل هي الأقرب للعرب والمسلمين»، ومشاركة لاعبة تنس «إسرائيلية» في دورة قطر الدولية، ووجود مراسلة «يديعوت أحرنوت» في الرياض، جاء الدور دفعة واحدة على وزيرة خارجية الكيان الإسرائيلي تسيبي ليفني لتعتلي منبر ما سمي بـ«منتدى الدوحة الثامن للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة» وتُمنح «شرف» التنظير على العرب من الدوحة أيضاً لتدشن عملياً انتقال الدور الرسمي القطري الممالئ لإسرائيل من طوره السري إلى العلني، ولتشكل نقلة نوعية جديدة في مسلسل «التطبيع» غير المجاني مع الكيان الإسرائيلي كونه يجري ودون أي مكسب آخر على حساب جثث آلاف الضحايا العرب من غزة إلى بغداد بأياد إسرائيلية، في وقت لم تعلن فيه الأسرة الحاكمة في الدوحة رفضها المعلن حتى لمقولات النظام الرسمي العربي وجامعته ومبادراتها العربية بأن «التطبيع بعد السلام»!!

ليفني كانت «في بيتها وأعز» وبدت أكثر من مرتاحة في تصريحاتها الصحفية ولقاءاتها الجانبية في بهو المبنى الذي استضاف المنتدى الذي تركزت مداولاته على مسائل «سيادة القانون وكفالة الحقوق والديمقراطية، والأهم مستقبل الإعلام الحر» وتلخصت مقولات الوزيرة الإسرائيلية بما يلي:

• حث الدول العربية على التطبيع غير المشروط مع «إسرائيل».

• على العالم العربي والقادة البراغماتيين فيه أن يقوموا بتنازلات ضرورية لأية اتفاقية سلام.

• لا يستطيع أي قائد فلسطيني تقديم تنازلات دون دعم من العالم العربي.

• المواجهة في المنطقة هي تحدي بين المعتدلين والمتطرفين.

• إسرائيل ليست طرفاً في الصراع وقطاع غزة هو العقبة التي تحول دون قيام دولة فلسطينية

• أسر ثلاثة جنود إسرائيليين بدون سبب لدى حزب الله هو مساس بالديمقراطية

• حشد الدعم العربي ضد إيران كونها تمثّل المتطرفين في المنطقة وهذا تهديد وتحدٍّ للمنطقة بأسرها.

• دعوة القادة العرب إلى «تغيير الرأي العام» ليلقوا دعماً شعبياً إذا توصلوا إلى تسوية مع إسرائيل.

وهنا مربط الفرس لأن تغيير هذا الرأي يتطلب بشكل رئيسي الاتفاق مع صانعيه والمؤثرين فيه، وعليه جاء وبكل بساطة أيضاً لقاء ليفني مع كبار محرري ومراسلي قناة الجزيرة القطرية، وعليه ارتضى رئيس مجلس إدارتها، «الفلسطيني» وضاح خنفر، تلقي «رسالة احتجاج إسرائيلية» من نائب ليفني على «التغطية غير النزيهة للجزيرة» لمجريات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أما الثمن أو «الجزرة» المعلنة فهي كسر الحصار الإسرائيلي الجزئي على المحطة في «إسرائيل»!

هذه التطورات «الإعلامية» لا تقل أهمية، بل خطورة، عن زيارة ليفني التطبيعية ذاتها لقطر، وهي تعيد على بساط البحث «لغز» الجزيرة على اعتبار أنها وشبكتها وضخامة شبكة مراسليها ومركز تدريبها ومسابقاتها الإعلامية أصبحت، شاء من شاء وأبى من أبى، واحدة من أهم القنوات الإخبارية ومصادر المعلومات بالنسبة للمواطن العربي، إن لم يكن أهمها، أي أنها أصبحت، بدهائها الانكليزي «البي بي ساوي BBC»، وفي ظل ضعف بقية القنوات (الحكومية) أو وضوح ارتهان بعضها الآخر (كالعربية المنافسة) أداة رئيسية في صياغة الوعي الإعلامي أو بالأحرى إعادة صياغة وتوجيه هذا الوعي لدى هذه الشريحة المستهدفة (المواطن العربي)!   

يسجل للجزيرة أنها فتحت المحاذير وكسرت «التابويات» النمطية العربية وشكلت نموذجاً وتحدياً بالنسبة لبقية المحطات العربية، ولاسيما الحكومية منها التي اكتفى معظمها بتقليدها واستنساخ برامجها مع وجود هامش ضئيل جداً للابتكار. ولكن «يسجل» للجزيرة أيضاً وبالمثل، أنها أول من دشن التطبيع الإعلامي وفتح المنابر أمام «الإسرائيليين» تحت شعار معرفة الآخر أو «الرأي والرأي الآخر». وحتى برنامجها الذي يحمل الاسم ذاته، أو نظيره «أكثر من رأي»، لم يقدم يوماً في تناوله حتى للقضايا والهموم العربية سوى الإثارة الإعلامية واللغط الفكري بتحريض من المضيف غالباً، إذا انطلقنا من فرضية أن أي حوار بين رأي ورأي آخر ينبغي أن يخرج برأي ثالث أكثر تطوراً ويخدم الطرفين لحل القضية المعنية.

بغض النظر عن المزاعم التضليلية في «مبادئ وأصول عمل» الـ«بي بي سي» وتلامذتها بخصوص «الحياد والموضوعية والدقة» فإن البديهية غير المعلنة هي أن الإعلام في نهاية المطاف إنما يمثل مصالح الجهة المالكة أو الممولة، سواء أَكان ذلك حكومات أو دولاً أو قطاعاً «خاصاً»، وهنا يحق إعادة تسليط الضوء على سؤال تمويل «الجزيرة» التي لا تقدم بدورها أي جواب شاف بهذا الخصوص، تاركة التأويلات في ذلك بأنها مرتبطة مالياً، ولاسيما عند التأسيس في عام 1996 بالأسرة الحاكمة القطرية وتحديداً بوزير الخارجية، رئيس الوزراء حالياً، حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، وبرأسمال يهودي كما يقال (من الملياردير الإسرائيلي يعقوب نمرودي بواقع 25 % من أسهم المحطة)، ترافق أساساً مع بدء التغلغل «التجاري» الإسرائيلي مع الدوحة في تلك الفترة.

ولكن الجزيرة، كإدارة وتوجيه وممولين، تجاوزت كل الحملات التحريضية التشكيكية ضدها في فترة الظهور وبدء الانتشار، وتحولت إلى «قبلة» «يتيمم» صوبها المشاهد والمسؤول العربي على حد سواء، ليس فقط كمصدر للأخبار والتغطيات السريعة والخاصة ومحاولة عرض وجهات النظر الحكومية، بل بحكم ما تعرض له، ولا يزال، مراسلوها الميدانيون من ضغوط ومخاطر وصولاً للاستشهاد أو الاعتقال التعسفي خلال أداء الواجب الإعلامي في البؤر الساخنة. وهنا تتداخل، وأحياناً على الهواء مباشرة، عوامل التعاطف الإنساني الشخصي مع مراسلي الجزيرة ومندوبيها الذين يؤدون عملهم بمهارة مهنية عالية، غالباً لا يشق لها غبار، ولكن ذلك مرتبط بهامشهم هم كشخوص وإمكانيات وتمايزات فردية واتجاهات فكرية ومواقف وطنية أو عروبية، وليس بآلية صنع القرار في المحطة.

وبهذه الحال فإن محطة الجزيرة، التي يرى البعض فيها حبل الخلاص الإعلامي، تستنسخ ببساطة لعبة الـ«بي بي سي»، أي كسب ثقة المشاهد بالسياسات الجارية والأخبار اليومية بغلاف من الدقة، ومع السماح بظهور «حيادية» أو عدم حيادية المراسل أو المحاور- الشخص، من أجل ضمان تجييش المشاهد ذاته بالاتجاه المطلوب، من الجهة المالكة أو الممولة، في القضايا الإستراتيجية وعند الضرورة، وذلك بغض النظر عن الحديث عن صراع تيارات إسلامية وقومية و«ماركسية» في المحطة، وهي تيارات إن وجدت من خلال بعض الوجوه البارزة من محاورين أو معدين فإن وجودها مقصود بهدف التلوين، والأهم للتأثير بجمهور هذه الوجوه، على اختلافهم، لتوسيع دائرة «القبول»، عند اللحظة المطلوبة لخلط الأوراق بالاتجاه المطلوب سواء أَكان توحداً بالرأي أم تبعثراً وانقساماً، وهو الأكثر تفضيلاً.

إن أحد أبسط الأمثلة على ذلك خلال السنوات الماضية هو تفرد الجزيرة، وكلما كانت إدارة بوش الابن «مزنوقة»، ببث ما يقال بأنها تسجيلات أو رسائل مصورة لابن لادن أو الظواهري، والتي لا يعرف أحد كيف يمكن «للقاعدة» أن تنجزها بوسائل تقنية عالية وبخلفيات غرافيكية واستوديوية عالية «في جبال تورا بورا» افتراضاً!

في هذه العجالة، وبناءً على ذلك كله، وأمام المنعطف الذي تعيشه المنطقة، والحديث عن حرب أمريكية إسرائيلية وشيكة تستهدف سورية وإيران ولبنان، ومع العدوان الإسرائيلي المستمر في فلسطين المحتلة، فإن «السيدة» ليفني تريد ببساطة من الإعلام العربي ومن المراسل العربي، ممثلاُ بالجزيرة «القدوة والمثل» أن يتحليا بـ«الحياد والموضوعية والنزاهة» المفصلة على المقاس الإسرائيلي الصهيوني، والتجرد، بل التنكر والتنصل، من كل المشاعر «العربية» المرتبطة برؤية جثث الأطفال «العرب» المتشظية بفعل «حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها» وضمن المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، ولنر بتمعن لماذا تكتمت «الجزيرة» وعند المنعطفات على تفاصيل نبأ اجتماع «ليفني» بمحرريها!

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على السبت, 03 أيلول/سبتمبر 2016 13:50