إضاءات على المؤتمر الوطني الفلسطيني
جاء انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني بدمشق على مدى ثلاثة أيام (23 ـ 25 / 1/ 2008) بدعوة من عدة قوى سياسية فلسطينية، وعشرات الهيئات والشخصيات الفاعلة في النشاط السياسي الوطني، في هذه المرحلة ليشير إلى خطورة المخططات التي يجري تنفيذها على ضوء مأزق المشروع الأمريكي/الصهيوني، الذي يعاني من تداعيات خطيرة في أكثر من مكان في وطننا العربي والعالم، مع تنامي قوى المواجهة له عسكرياً وسياسياً وشعبياً.
وقد دفعت دلالات مؤتمر أنابوليس السياسية، كما نتائج مؤتمر باريس الاقتصادي، قوى المجابهة والصمود العربية وفي القلب منها الفلسطينية، إلى التوقف أمام خطورة نهج توسيع رقعة العدوان والغزو والحصار ضد فصائل المقاومة، وزيادة الرشى المالية لتجمعات وإدارات مناطق الحكم الذاتي الفاقدة للشرعية الوطنية. وقد جاءت زيارة مجرم الحرب بوش لبعض الدول «القطرية» في المنطقة، المترنحة مابين الاحتلال المخفي «الاقتصادي والسياسي والثقافي» ومابين الاحتلال العسكري المخفف «القواعد العسكرية»، إضافة لتفقده كيانه الإرهابي «الكيان الصهيوني»، لترسم للمنطقة مسارين لاثالث لهما: المقاومة لمشروع الهيمنة الامبريالي/الصهيوني، أو الخنوع والإذعان للمشروع الاحتلالي والعمل على تنفيذ أجندته المحلية.
في ظل هذا المشهد، انعقد المؤتمر الذي شارك به أكثر من ثمانمائة وخمسين عضواً حضروا من مختلف مناطق الوجود الفلسطيني (فلسطين المحتلة، والأقطار العربية، ومناطق اللجوء في قارات العالم المختلفة) وتغيبت عنه عدة قوى سياسية من أبرزها، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كانت ممثلة في اللجنة التحضيرية، والمشاركة في كل ترتيبات انعقاد المؤتمر الذي تأجل بسبب عدة عوامل - كان سيعقد في أوائل كانون الأول الماضي- كما رفضت حضوره قيادة سلطة رام الله المحتلة وتوابعها.
كما حضر المؤتمر مايقارب الثلاثمائة ضيف- اتخذ المؤتمرون قراراً باعتبارهم أعضاء عاملين لكونهم من الأشقاء والأصدقاء الذين يعتبرون قضية فلسطين قضيتهم المركزية. مابين جلسة الافتتاح في اليوم الأول، التي غطتها كلمات الخطباء «اللجنة التحضيرية للمؤتمر وقادة الفصائل المشاركة ورؤساء الوفود» التي تجاوزت في مضامينها صيغة ورقة الدعوة للمؤتمر- التي أثارت ردود فعل احتجاجية واسعة لكونها تضمنت في بندها الثاني موقفاً ملتبساً حول الأراضي المحتلة عام 67 بدون الإشارة لفلسطين التاريخية والمقاومة كأداة تحرير»، والجلسة الختامية التي تلي فيها «إعلان المقاومة والتحرير والعودة، والبيان الختامي» ساهم العديد من الحضور في مناقشات واسعة وحامية بددت الكثير من الصقيع الذي فرضته الثلوج التي غطت محيط المكان. ويستطيع كل من شارك بالاستماع للكلمات التي تتالت في القاعة الرئيسية، والمداخلات والنقاشات التي دارت لساعات طويلة في اللجنتين اللتين شكلهما المؤتمر، أن يتلمس حرص المشاركين على الخروج بمواقف سياسية تتجاوز الأزمة، من خلال مركزية القضايا التي ناقشتها كل لجنة وهي:
لجنة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها: أ-حق العودة لكل اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم وممتلكاتهم. ب- حق المقاومة حتى دحر الاحتلال. ج- الحق في إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس.
لجنة الوحدة الوطنية وإعادة بناء مؤسسات م.ت.ف.
ويمكن القول بأن العديد من المداولات والحوارات التي لايخلو البعض منها من التبسيط والتكرار، كما حصل في كل لجنة، إلاّ أن المداولات في كل منها تضمنت بالمقابل اجتهادات ورؤى تتلمس بكل شفافية وموضوعية أساليب العمل الأفضل. وقد تركزت العديد من المناقشات حول ضرورة القراءة النقدية للتجربة والمرحلة من أجل التوصل إلى صياغة برنامج وطني كفاحي شامل لايرتهن بحسابات الموقف الفصائلي بمقدار مايلتزم بقضية تحرير فلسطين، كل فلسطين، وهو ماركزت عليه ورقة «الملاحظات» التي صاغتها نخبة من الشخصيات الوطنية التاريخية والناشطة في الأردن، التي اتسمت بدرجة عالية من الموضوعية لتأكيدها على الثوابت الوطنية المستندة إلى الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه، وإلى المقاومة المسلحة كطريق أساسي في النضال، وإلى قومية الصراع التاريخي مع الصهيونية كحركة عنصرية احتلالية وإجلائية تستهدف الأمة بكاملها.
جاءت معظم بنود إعلان المقاومة والتحرير والعودة لتعيد التأكيد على أبرز القضايا الرئيسية في مسيرة الكفاح الوطني الممتد على مساحة قرن من الزمن، وهو ما أعادت التركيز عليه العديد من فقرات البيان الختامي، حين أكدت على مشروعية المقاومة والحق التاريخي لنضال الشعب من أجل تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني الممتد من رأس الناقورة إلى رفح ومن البحر إلى النهر. لكن المراقبين توقفوا عند تجديد البيان الختامي تأكيده على «اتفاق القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني-الأسرى» كإطار عمل صالح للعودة للحوار الوطني! إذ يعتقد العديد من المتابعين للوضع الداخلي الفلسطيني وتداعياته بعد أحداث منتصف حزيران في غزة والصدى الذي تأثرت به سلطة رام الله، أن العودة للحديث عن تلك الأسس لايعدو كونه عودة للماضي الذي لم يساعد بحواراته الثنائية واشتراطات طرفيه، على تجاوز المأزق الداخلي، لأنه إجراء أدى لتخدير الشعب ولتبريد الرؤوس الحامية لفترة من الزمن.
إن أي حوار وطني لابد أن تكون جميع أطرافه قد حسمت تماماً رهاناتها وعلاقاتها بالمحتل ومخططاته، لأن الوحدة الوطنية القائمة على وحدة الشعب والأرض لايحققها سوى الوطنيين الذين ينتمون لشعبهم ووطنهم. ولهذا فقد شكلت التوصيات والقرارات التي توصل لها المؤتمرون خطوة إضافية على طريق رفض العملية السياسية الفلسطينية، مما يعني رفض اتفاق أوسلو وملحقاته وأدواته، وهو ما اقتضى من الجميع هنا، التأكيد على أهمية وضع آلية لتنفيذ المقررات، نتج عنها صيغة «لجنة المتابعة العليا» التي تتشكل من ثلاثة وعشرين عضواً، يأمل المشاركون بالمؤتمر أن تكون معبرة عن عقلية العمل الجماعي، الذي يراعي الحراك الجماهيري الهام والنشط في كل المواقع، بمعنى أن يأخذ الأعضاء غير المنضوين في الفصائل، والقادرين على التحرك اليومي الفاعل، دوراً بارزاً يساهم باستقلاليته عن حسابات الفصائل الذاتية، من خلال العمل على إنعاش وتحريك قطاعات الشعب الواسعة، المنتمية للوطن ولقضية تحريره.
لم يشفع للمؤتمر الذي حضرته مئات الشخصيات الناشطة في النضال الوطني، والعديد من قيادات الصف الأول في فصائل العمل السياسي المقاوم، ووجود «الأيقونات» الوطنية التاريخية في هيئة رئاسته (بسام الشكعة وأنيس صايغ) أو الداعية لحضوره رغم تغيبها نتيجة المرض (بهجت أبو غربية) من أن يتعرض لحملة موتورة وحاقدة ومضللة شنتها عليه أبواق سلطة الحكم الذاتي و«دناديشها» الذين رأوا فيه «خطوة انقلابية على الشرعية» و«حفنة من العملاء المأجورين لأجهزة أمن عربية وإقليمية» و«دعاة انقسام وتآمر على المنظمة». وصلة الردح تلك أعاد إنتاجها ذلك الرهط المشبوه من النكرات المنبهرين بـ«أولمرت وكونداليزا وبوش». ولهذا فإن تجديد الحملة على المؤتمر، ما هي إلاّ أوراق اعتماد جديدة يقدمها هؤلاء لسادتهم في واشنطن والكيان الصهيوني.
إن خطوة النجاح تلك والمتمثلة في وصول المؤتمرين للتأكيد على القضية التحررية لشعبنا وحقه في وطنه التاريخي، أساء لها الخلل الفادح والتقصير اللافت للنظر في عمل اللجنة الإعلامية والتنظيمية والإدارية، وهو ما انعكس سلباً على العديد من النشاطات في عمل الصحفيين وحركة مندوبي القوى السياسية الشقيقة والصديقة. إن جهداً كبيراً قد بذلته اللجنة التحضيرية في الإعداد لانعقاد المؤتمر لايجب أن تغطي عليه تلك الأخطاء، آملين في نشاطات قادمة أن يتم تجاوز كل ذلك بعمل جماعي، تتوزع نشاطاته على متخصصين أكفاء.