«حروب» كانون الثاني 2008

ربما لاشيء أكثر إيلاماً من صورة الطفل الفلسطيني المريض في غزة الذي قطع الاحتلال مصادر الطاقة عن جهاز تنفسه وبات أهله يتناوبون عضلياً على مدار الساعة لمده بأوكسجين الحياة، ومثله تلك المرأة الغزاوية أيضاً التي تخوفت من حدوث شيء ما لها ليلاً ونفاد عبوات أوكسجين حياتها، إلا تصريح بعض (وأكرر بعض) قواعد الفتحاويين في رام الله، مباشرة بعيد تعطل محطة الكهرباء الرئيسية في غزة وغرقها مع أبنائها رجالاً ونساءً وأطفالاً، مرضى في المشافي، وطلاب مدارس عليهم واجبات منزلية يجب حلها، وربات منازل، في الظلام جميعاً، حمساويين وفتحاويين ومن مختلف الفصائل وغير متحزبين، وقول أولئك «البعض» في تصريحات لقناة الجزيرة في تغطيتها المتزامنة من غزة ورام الله لرصد ردود الفعل: «في كل الأحوال هذا خيار شعب غزة وهم يدفعون ثمنه..... (استدراك) ونحن نتضامن معهم..»!

لا أحد يعلم ما إذا كان هؤلاء في رام الله يعلقون، بهذه الرؤية الضيقة الصادمة، على حدث يجري في غزة، العربية الفلسطينية، أم في أنغولا أو موزامبيق؟!

بالمثل لم يكن مستغرباً في اليوم ذاته انتشار خبر مفاده أن الأمير السعودي تركي الفيصل يرحب، استكمالاً وتتويجاً للخطوات التطبيعية السعودية، بالكيان الإسرائيلي «في النسيج العضوي العربي شريطة قبولها بمبادرة السلام العربية»، وكأن «إسرائيل» لم «تَبُل» على هذه المبادرة من خلال الجرائم والمجازر المستمرة، المتدحرجة، والمستمرة، والمستطيلة، وبكل القياسات الهندسية، منذ إطلاقها، مع كل ما سبق تلك المبادرة من خطوات السلام العربي، مثلما نسفتها واشنطن بـ«خارطة أنابوليس»، وجولة بوش الأخيرة، وإعلانها الموافقة على نشر قوات السلطة الفلسطينية على الحدود مع غزة، بهدف واضح يبتغي الانتقال إلى مستوى جديد من الصراع الدموي الفلسطيني-الفلسطيني والاستمرار بتحويل الصراع عن جبهته الأساسية مع المحتل الإسرائيلي، ومثلها مطالبة رايس اللفظية «بضرورة تفادي أزمة إنسانية في غزة» ولكن مع مطالبتها المنفذة عملياً «بالحفاظ على أمن إسرائيل»(!)، علماً بأن عدد الضحايا الفلسطينيين منذ «أنابوليس في 27 تشرين الثاني الماضي تجاوز 160 فلسطينياً بأيدي المحتل بينهم 12 طفلاً على الأقل، وتسع نساء، ووقعت غالبية القتلى والجرحى في قطاع غزة» باعتراف مندوب السلطة الفلسطينية ذاتها لدى مجلس الأمن الذي لم يستخدم كلمة «شهداء» بل «قتلى»!

***

يوجد في أدبيات الجامعة العربية ممثلة لهذا النظام الرسمي العربي، والتي ظهرت أصوات تطالب بعدم عقد قمتها الدورية في دمشق كما استقرأنا مسبقاً، يوجد مصطلحا «الأمن القومي العربي» و«الدفاع العربي المشترك». ولا أحد يعلم ضرورة الإبقاء على الأذى المعنوي الذي يلحق بالمواطن العربي من جراء الإبقاء على هذين المصطلحين، الأول الذي خرقته أنظمة وشخصيات تسمى عربية وتقف إلى جانب المعتدين، والثاني الذي لم يستخدم ولم يُفعّل لا مع العراق أيام الغزو الأمريكي المستمر حتى اليوم، ولا مع لبنان قبل أن يشتد عود مقاومته الوطنية لتصبح قوة ردع بحد ذاتها، ولا مع فلسطين المحتلة بما فيها غزة والضفة الآن ومنذ تأسيس الجامعة، ولا مع السودان عندما قصف أمريكياً، مثلما كان الحال مع ليبيا في الثمانينات، ولا مع سورية طبعاً بالاعتداءات والاستفزازات الإسرائيلية المستمرة على أراضيها، اللهم إلا إذا كانت صفة «العربي» لا تنسحب على مواطني «الوطن العربي»، ولكن على نظمه! ولذلك لا جدوى من طرح السؤال/الغصة: ماذا تنتظرون ومتى ستتحركون؟ بل من سيتحرك، وكيف؟

***

س: لماذا غزة الآن؟

ج: هي ليست الآن. فغزة مستهدفة دائماً كبقية بؤر الاستعصاء أمام المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة بما فيها الإرادة الشعبية في الضفة الغربية، وأراضي 48 التي لم يتوقف استهداف الإنسان الفلسطيني فيها بما يمثله من مواجهة ومقاومة في وجه المحتل وجرائمه، ولكن غزة، باتت بعد استكمال حصارها، البؤرة المحتملة أمام أصحاب المشروع الأمريكي الصهيوني وأنصاره وأدواته، لتحقيق اختراق ما أمامه في ظل استمرار استعصاءاته في لبنان، و«الملف النووي الإيراني» واجهة لرغبة واشنطن في تغيير السياسات الإيرانية، والمواقف الرسمية السورية باتجاهاتها العامة ومن خلفها ذهنية المقاومة الكامنة لدى الشعب السوري بمكوناته الثقافية والحضارية تاريخياً. ويوازي وضع غزة في تلك المعادلة، مجريات الجبهة الاقتصادية-الاجتماعية في الداخل السوري! بمعنى أن المشروع الأمريكي المستعصي في المنطقة يحاول تحقيق انتصار ما، يتوهمه في غزة، مثلما يحاول تغيير الوضع السوري ولكن من الداخل. ومن هنا تتلاقى، أرادت أم لم ترد، بحسن نية أم بسوئها، اتجاهات السياسات الاقتصادية الاجتماعية المطبقة بالبلاد (بما فيها معركة رفع الدعم) مع مصالح المشروع الأمريكي، وهو ما نحذر من نتائجه مراراً وتكراراً.

***

يقول بعض المهتمين إنه إذا كان لدينا حرب تموز ضد لبنان في 2006 فإننا أمام حرب كانون الثاني ضد غزة 2008، وأن الأولى إذا لم تطح برأس السنيورة، فمن من المحتمل أن تطيح الثانية برأس عباس. ويقول بعض آخر إن جولات بوش وساركوزي في المنطقة التي خرجت بصفقات مليارية للنفط والسلاح مع دول الخليج «العربي» كانت لقاء عدم قبول تلك الدول بتبني مواقف بوش وساركوزي الداعية لدعم شن عدوان على إيران، لا حباً بطهران ولكن تجنباً لنتائج الصراع العسكري عليهم، ويقول بعض ثالث إنه بهذا أو بذاك فإن تلك الصفقات هي استمرار للحرب وتوسيع رقعتها ولكن بطريقة أخرى مبتكرة اقتصادية الشكل، وبناءً على ذلك كله يقول رابع إن بوش، كساركوزي، اللذين لم يأتيا للسياحة قط، وإن كثرت استعراضاتهما السياحية خلال جولتهما الأخيرة، إنما أرادا تسريع التوترات في المنطقة، لتنفجر على أساس الثنائيات الوهمية حروب كـ«داحس والغبراء» في مددها بما يسمح للأمريكي أو الفرنسي أو الأطلسي أن يتدخل كعنصر إطفاء فيها ليقيم ويوسع قواعده العسكرية، استيلاءً مباشراً على ثروات المنطقة وتحكماً بخطوط إمدادها في العالم، بعد تغييب ذهنية شعوبها بالماكينة الإعلامية في أتون تلك الحروب التي لن يسأل أحد عندها من كان وراء فبركتها واصطناعها أصلاً على مبدأ «البلقنة» التفتيتية القائمة على الفتنة.

***

أمام هذه اللوحة، وبالعودة إلى سؤال «من وكيف» الشائك، فقد آن الأوان، سورياً، وبما يهمنا على الأقل تعزيزاً وتطويراً للوحدة الوطنية بوصفها أحد أدوات المواجهة، هو تشكيل ذاك الائتلاف الوطني السوري المقاوم على نحو شامل سياسياً واقتصادياً-اجتماعياً بأطره الديمقراطية المعبرة عن مضمونه خدمة لمصالح الشرائح الأوسع، بفرز حقيقي للقوى في الدولة والمجتمع، بعيداً عن كل مظاهر الخلط، والثنائيات الوهمية، ومحاربة المواطن بلقمة عيشه، وقيمة ليرته، ومصادر وقوده شتاءً، وهو ما سيؤسس لمقومات مواجهة يحسب لها الأمريكي والإسرائيلي ألف حساب في كل جبهات عدوانه المفتوح في المنطقة.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 12:24