نعم، الأشجار تموت واقفة!

في زحمة هذا التردي العربي المتودد لتل أبيب وواشنطن تارة أو المتردد أمامهما تارة أخرى تأتيك من ساحات الصراع المباشرة قصص تشد العزيمة لأبطال حقيقيين يجسدون صرخة الرفض الفطرية الأولى عند الولادة، قصص لشبان وشابات لم يأخذوا بمظاهر رفاهية العيش المصطنعة ولا الموبايلات والسيارات أو الكليبات والـSMS مثلما لم ينساقوا وراء دعوات الاقتتال الداخلي، ومنها قصة الشهيد الفلسطيني الشاب أحمد سناكرة من الضفة الغربية كما أوردتها نشرة دنيا الوطن يوم الأحد 20/1/2008 والتي نوردها نقلاً عنها فيما يلي مع التحفظ على الخلط بين مفردات «الموت» و«الوفاة» و«مقتله» و«الاستشهاد»:

اختار أن يموت كما يريد تماماً، واقفاً وهو يقاتل. وحتى قبل موته بقليل، كان يسخر من عروض السلطة، لتسليم سلاحه، والانضمام إلى قائمة أولئك الذين «عفت» عنهم إسرائيل. كان أحمد سناكرة، الذي لم يتجاوز الـ22 ربيعاً، يقول إنه يريد أن يقاتل حتى اليوم الأخير من حياته ونال مراده. وربما لفرط ما واجه الموت، وانتصاره عليه مرة تلو مرة، لم يعد يخشاه، بقدر ما كان «يكره البرد». كان ينتظر نوماً طويلاً وهادئاً دافئاً، فمثله لم يكن يعرف الدفء ولا الأمان لسنوات عديدة. كان يقضي معظم لياليه مطارداً في العراء والبرد القارس، في مواجهة الموت في كل لحظة. ولا عجب، أن أجبر أمه على أن تقطع له قسماً، قبل أيام من «استشهاده»، بأن تغطيه في القبر بغطاء دافئ، قال لها «أريد نومة دافئة، وطويلة يا أمي». ووفق ما قاله شقيقه علاء، أحد أبرز مطلوبي كتائب الأقصى في نابلس، لـ«الشرق الأوسط»، فقد فزعت الأم المفجوعة سريعاً بقلب مكسور إلى المستشفى الذي كانت ترقد فيه جثته، كانت حريصة كل الحرص، على أن لا يتعرض احمد للبرد بعد وفاته لكرهه له البرد. ورفضت أن يوضع في ثلاجة الموتى ابدا، بناء على وصيته. وقال علاء «لم يكن يتخيل نفسه داخل ثلاجة، حتى وهو جثة». وتابع بعد لحظة صمت «كان يكره البرد».

احمد سناكرة، ويناديه أهالي نابلس ورفاقه «سنكور»، تعود أن يسخر من أولئك الذين كانوا يتربصون به الموت، وفي كل مرة كان يستفزهم إلى حد الجنون. وحتى عند مقتله أول من أمس (18/1)، ظنوا أنه لن يقاتل طويلاً، بيد واحدة فقط (أصابع يده اليمنى مبتورة أثناء احد الاشتباكات)، لكنه قاتل طويلاً ولساعات بيده اليسرى. قرر مرة أخرى أن ينتصر على الجنود الإسرائيليين بطريقته الخاصة. لم يسلم نفسه ولم يستسلم فقاتل حتى قتل، تماما مثلما رفض أن يسلم نفسه في كل مرة. وأضاف علاء «لم يكن يريدونه حياً أصلاً، لقد اتصل بي قبل 3 دقائق من استشهاده، حوالي 5.15 فجراً، وقال لي إن رجله قد قطعت، طلبت منه أن يسلم نفسه، فقال إن الجنود على مقربة منه». وتابع القول «انقطع الاتصال، لقد أعدموه، كان الرصاص يملأ جسده الذي تعود الرصاص». يتذكر الفلسطينيون قصة احمد سناكر مع الجيش المدجج بالسلاح، عندما هدم مقاطعة نابلس فوق رأسه في تموز 2006. وحاصره تحت الأنقاض آنذاك 3 أيام. شاركت الدبابات والطائرات الحربية في الحصار، ضربوه بالصواريخ فلم ينفع فساوموه ولم يقبل. فناداه احد الجنود الإسرائيليين بلغة عربية، آنذاك، «يا أبو إيد مقطوعة، سلم نفسك». ثم قالوا له «يا سنكور، لدينا الماء، أخرج واشرب، وسنطعمك أيضاً». وروى أحمد سناكرة تجربته تلك، قائلا «انه بعد يوم ونصف اليوم من الحصار أصبح العطش عدوي الأول. ولأتغلب على مساومات الجنود، صرت أجمع بولي في حذائي وأشربه».

دفن نفسه في قبر اختياري، بينما ظلت القنابل تتساقط فوق رأسه، كان يعدها وقال (من 30 إلى 40 قذيفة في الساعة). ملأ التراب عينيه، فقطرهما بالبول، وملأ أذنيه، فأغلقهما بالضمادات التي كانت تداوي بعض جروحه السابقة. أما أصعب المواقف، فقال «عندما أطلقوا علي كلب بوليسي، كنت حينها أختبئ بحفرة في نفق قديم، كانت هناك بعض القضبان الحديدية الملقاة بين الحجارة الكبيرة، جذبت إحدى القضبان بكل قوتي، عندها كان الكلب قد اقترب مني، فغرست قضيب الحديد في عينه لتخرج من أذنه، بعدها خفت أن يبدأ بالنباح، سيما أن هذه الكلاب مثبت على إذنيها لاسلكي لتستجيب لأوامر الضابط، فقمت بوضعه في حفرة المجاري التي أختبئ بها، ووضعت فوقه التراب والحجارة.خرج سناكرة من تحت أنقاض المقاطعة بطلاً، متخماً بالجروح وكان يفاخر «خرجت وقهرتهم»، وحتى مقتله أول من أمس، كان قد تعرض إلى 6 محاولات اغتيال، أصيب في إحداها بجروح خطرة، كاد يقضي معها، لكن شقيقه إبراهيم هو الذي قتل فيها وكان في يوم جمعة كما غادر أحمد الدنيا في يوم الجمعة. وفي استقبال أحمد تذكرت أمه ابنها إبراهيم، إذ كان احمد يلبس سترته. ورغم استعداده للموت، كان يحب الحياة كثيراً، كما قال شقيقه علاء، وكان يخطط لدراسة الاقتصاد في جامعة النجاح. وكان يحب أن يظهر أنيقاً دوماً. وكان يوم استشهاده على موعد مع عملية تجميل ليده التي بتر منها 3 أصابع، ومع عملية أخرى لإزالة شظية قرب عينه. أعد «سنكور» كما يحب أن يسميه علاء، وصيته، وأجمل صوره، لوضعها في ملصق إعلان مقتله. أوصى أهله بأن يغنوا له في بيت العزاء أغنية طالما رددها «بدري عليك يا رفيق العمر بدري، ريت رصاص الغدر خلاك وصاب صدري». وطلب من حارس المقبرة، قبراً إلى جانب شقيقه إبراهيم، قال له «إياك أن تفرط بهذا القبر، اتركه لي».

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 12:25