الواقع.. النكتة
المصريون مشهورون بالنكتة، والنكتة عندهم أحد أهم أشكال التعبير عن الرأي.
والنكته السياسية تجد رواجاً شديداً كيفياً وكمياً كلما زادت الأزمات واشتدت على المواطنين، وسيل النكتة السياسية جارف هذه الأيام للتعبير عن عدم الرضا عن الحال.
خشيت من سرد بعضها حتى لا أضع نفسي تحت طائله القانون الجائر الذى يحبس دون رحمة لرأي يقال أو وقائع صحيحة يتم النشر عنها فكيف يكون الأمر إزاء نكات تصل الى أعماق أعماق الحقيقه وتمسك بكبدها؟
الصحف الحكومية تمتلىء بمانشيتات عن الإنجازات والوعود، بما يعطي انطباعاً لمن لا يعرف مصر أننا نسبح في أنهار من اللبن والعسل بعكس الواقع الأليم الذي نحياه.
منذ أيام قليلة نشرت الصحف الحكومية في سياق مؤتمر الجماعة الحاكمة (الحزب الحاكم) تصريحات رئيس لجنة السياسات عن تشغيل 2.5 مليون شاب في غضون العامين القادمين، وهو خبر مهم ولا شك، لكن الوريث لم يوضح لنا حجم الاستثمارات اللازمة لتشغيل هذا العدد الهائل الذي يزيد عن 25 مليار دولار، ولا كيفية تدبيرها، ولم يذكر شيئاً عن حصة كل من الداخل والخارج في هذه الاستثمارات اللازمة.
بعدها بيومين أو ثلاثة، وفى سياق الحدث نفسه، صدر كلام عن استراتيجية مستقبلية للطاقة والاهتمام بقضايا الخدمات العامة وعدالة التوزيع والتشغيل إلى آخر هذه الأوهام.
لكن الصحف الحكومية التى تعد بمستقبل زاهر لاتستطيع أن تتجاهل المشاكل الهائلة التى صنعتها هذه السلطة وسياستها، إذ تعترف بأن أهم قطاعات الصناعة المصرية، وهو الغزل والنسيج، يعاني من توقف الإحلال والتجديد منذ 20 عاماً وأن خسائره بلغت 20 مليار جنيه، وأن ديونه تبلغ نحو 20 مليار أخرى، لكن هذه الصحف لاتحدد مسؤولية الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية التي تحكم منذ السبعينيات من القرن الماضي.
إن الوقائع اليومية فى مصر تؤكد أن ما تدعيه الحكومة من إصلاحات وإنجازات ووعود إنما هو مجرد أضاليل. فالإضرابات أصبحت زادا يوميا للمصريين، وتجاوزت عمال الغزل والنسيج إلى عمال بقطاعات أخرى. وتجاوزت قطاعات العمال عموماً الى الفلاحين وإلى فئات أخرى في المجتمع مثل العاملين في مصلحة الضرائب (الذين كانوا حتى عهد قريب يحظون بامتيازات في الأجور والدخول أعلى من غالبية العاملين بالحكومة)، ومثل المدرسين وغيرهم، بل إن الإضراب عن الطعام الذي يصاحب أحيانا إضرابات العمال، قد أصبح بدوره وسيلة احتجاجية إزاء تعسف الإدارة والسياسات المطبقة. والقائمة تطول.
وقائع أخرى حول اختفاء ألبان الأطفال من الصيدليات، وعدم كفاية الدعم المقرر الذي لا يغطي سوى 10% فقط من الأطفال وزيادة أسعار المدعوم إلى 10 أضعاف السعر، فى حين يؤكد الصيادلة أن سبب اختفاء ألبان الطفال هو استيلاء تجار الحلويات عليها لاستخدامها في صناعة الحلوى وتحقيق أرباح هائلة.
حتى أطعمة الفقراء مثل الفول ارتفعت أسعارها بشكل مذهل لا يتناسب مع دخول عشرات الملايين من المصريين.
هذه الوقائع هى جزء من وقائع يوم واحد فى صحيفة حكومية واحدة، وصحيفة مستقلة واحدة. ومع ذلك يهلل الإعلام الرسمي بإنجازات لو كان ربعها حقيقياً لانعكس على الناس، كما يهلل بوعود تتردد منذ أكثر من ربع قرن، هي استمرار لأكذوبة وخديعة السلام والرخاء.
بالأمس فقط، قامت الدنيا ولم تقعد، وكرس الإعلام الحكومي المرئي والمقروء والمسموع أوسع مساحة لتغطية «دخول مصر عصر الطاقه النووية» وإعلان الرئيس عن «بدء برنامج لبناء عدد من المحطات النوويه لتوليد الكهرباء» الخ... وهو بدون أدنى شك خبر مبهج للغاية، وقد سارعت الولايات المتحدة وفرنسا للترحيب بالمشروع، وإبداء استعدادها للمساعدة. ونحن بدورنا نرحب.
غير أنه ينبغي التوقف قليلاً أمام هذه المسألة.
إذ لا يعتبر الإعلان بمثابة بدء للبرنامج النووي، وإنما هو استئناف لبرنامج سبق
أن بدأته مصر منذ 50 عاما تقريباً، وتوقف في الستينيات على خلفية الاتفاقيات الدولية، وقبل توفر معلومات عن حقيقة المشروع النووي الاسرئيلي. لكن الدراسات والأبحاث لم تتوقف.
وتم استئناف المشروع أوائل الثمانينات غير أنه توقف منذ عشرين عاماً تقريباً بضغوط أمريكية رغم معرفة وذيوع أبعاد المشروع النووي والترسانة النووية الاسرائيلية.
يتساءل البعض لماذا ترحب أمريكا وفرنسا بمشروعنا وترفض المشروع الايراني؟
الإجابة بسيطة، وهي أن التكنولوجيا النووية لا تتجزأ، وتخصيب اليورانيوم لاستخدامه فى الأغراض السلمية أو العسكرية يعتبر أحد أهم المكونات الرئيسية للمشروع (علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً، ومن زاوية الأمن القومي أيضاً إلى جانب إمكانيات استمرار المشروع ). وهو ما يدعو إلى تجنب الوقوع أسرى لمن يمتلكون المكون الأساسي لتشغيل المشروع، وهو اليورانيوم المخصب.
والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على السيطرة على النفط باستخدام القوة المسلحة وخارج إطار القانون والأعراف الدولية، وهو أمر لانشاهده فقط، بل تعاني منه منطقتنا والعالم بأسره. وتخصيب اليورانيوم يتساوى من حيث الأهمية مع النفط في توفير مصدر الطاقة ينبغي ألا يكون خاضعاً لوقف الإمداد فتصبح المفاعلات مجرد أجهزة من الخردة.
كما يتساءل البعض عن أهداف الإعلام الحكومي الذى يروج أن قرار الرئيس بخصوص هذا المشروع، قد جاء استجابة لما طالب به جمال مبارك، وهل تعتبر هذه الخطوة هي في سياق التحضيرات للتوريث؟.
نحن لا نعطي صورة سوداوية للواقع. ونرفض التشكيك المعتمد على مجرد الظنون التي تفتقد إلى الدليل، ولكننا نعترض على السياسات القائمة كلها لأن العمود الفقري لها يستقر بعيداً خارج الوطن، وبالتالي يضع البلاد تحت رحمة الآخرين. وخير شاهد على ذلك هو تقرير «مؤسسة كارينجي للسلام الدولي»، وهي مؤسسة ليست مناوئة للسياسة الأمريكية من حيث الجوهر، ولا للسياسات الليبرالية الاقتصادية التى ألحقت بنا أفدح الأضرار، إذ تقرر أن «مصر فشلت فى تنمية قطاع الأعمال. والعوامل الخارجيه لاستقرار اقتصادها لن يستمر»، وأنهت تقريرها بأن الإصلاح الاقتصادي يفتقر الى التأييد الشعبي، لأنه يعتبر سبباً لتحقيق مزيد من الضرر، كما فعلت الإصلاحات السابقة التي فشلت فى معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، إضافة الى أنه من المتوقع «أن تزيد هذه الاصلاحات في المستقبل الفجوة بين الأغنياء والفقراء قبل أن يشعر الناس بالآثار الإيجابية للإصلاح».
ونقول تعليقاً على ذلك: طالما أن سياسات السلطة تسير في هذا الاتجاه، فإن الصراع الطبقي سوف يشتد، ولن تجدي إطلاقا أية عمليات ترميم أو حلول جزئية،
لأن الاعتماد على الخارج، وهو هنا الإمبريالية (أي الأعداء) هو بمثابة تسليم أعناقنا لحبل المشنقة.
أليس الواقع المعاش فى بلادنا هو نكتة كبيرة، ولكنها مبكية عند شعب اخترع النكات كي يضحك متجاوزاً صعوبات الحياة؟؟
لكن النكتة الكبيرة هذه المرة تجاوزت مجرد الصعوبات إلى مرحلة المأساة المبكية والمهلكة.