عبدة النفط
شاهد نهر دجلة بصمت عبر التاريخ ثنائية المذبحة والمقاومة ثم روى الحكاية للحضارات المتعاقبة على مدار سبعة آلاف عام: شعب أسطوري يقاوم ببطولة نادرة مذبحة الغزاة وينتصر في النهاية مكللاً بالمجد رغم قسوة التضحيات..لم تكن بغداد يوماً إلا مقبرة للغزاة، كيف تكتب تاريخ آخر الغزوات بطبعتها المعولمة وطريقة دحرها لقوات «التحالف الدولي» عن نخيلها الممتد نحو السماء؟ هل تكشف أحرفه أكاذيب أمراء الحرب المشبعة بجنون عظمتهم ورغبتهم الجامحة بإعلاء شأن «الديمقراطية» ومنع الحرب الأهلية بين النهرين؟! هل يحفر قليلاً في الأرض ليكتشف سر عبادة النفط الذي لا يروي ظمأ شركاتهم الاحتكارية العملاقة بنهب الاحتياجات الأساسية للبشر وقذف مليون مواطن للحريق بلا رحمة تحت جنون غطرسة القوة وانحدار أخلاقها. تُسلم العاصمة العراقية في التاسع من نيسان الجاري إلى أرشيف التاريخ خمس سنوات على احتلالها لكنها حافلة بشرف المقاومة.. صحيح أن جيشها الرسمي لم يصمد طويلاً أمام جبروت العدوان الدولي، لكنها استعادت طريقتها الخاصة بالكفاح فجر اليوم الثاني لاحتلالها.
تروي حكاية «طهارة السلاح» للمعتدي الباحث عن صيد ثمين متسلحاً بأخلاق ديمقراطية ومدنية متحضرة، أنه في التاسع عشر من آذار عام 1968 ذبح بدم بارد سكان قرية «ماي لاي» الفيتنامية، واعترف الجنود بطهارة سلاحهم: تلقينا أوامر القيادة العسكرية بإطلاق النار على كل شيء يتحرك في البلدة المرتفعة النائية. كانت النتيجة مذبحة بكل معنى الكلمة: خمسمائة مدني فيتنامي سقطوا في نهر دمهم، لكن الغزاة فروا بعارهم من سايغون بعد ست سنوات على القتل الأعمى.
أواخر آذار الماضي اعترف جنود «التحالف الدولي» في شهاداتهم المروعة أمام منظمة مناهضي الحرب أن قيادتهم العسكرية في العراق سلمتهم أوامر بإطلاق النار على كل شيء يتحرك، وقال أحدهم إننا حوّلنا حفل عرس لرحلة صيد ومزقنا برصاصنا كل شيء تحت تعليمات صارمة بأن جميع المشاركين بالفرح أعداء يستحقون آخر الطلقات لاكتمال أفراحهم.. كأن المسؤول العسكري انتقل فوراً من ماي لاي الفيتنامية إلى بغداد حاملاً على ظهر دبابته حثالة مرتزقته و«طهر» سلاحه!!
أبرمت عاصمة الرشيد عقداً جديداً مع المجد الحتمي القادم مهما تأخر، وقد اعتادت انتزاع الانتصارات ورصفها نجوماً في سماء تاريخها، بل نثرها زهراً على عبق حضارتها الممتدة عميقاً على طرفي نهرين خالدين، برعا برواية صامتة لحكايات كفاح تثير الإعجاب والانبهار.. هل نشهد زغرودة فرح عناق دجلة والفرات قريباً بإسقاط كل الأقنعة المزيفة للمتوحش الغارق في بحر الدم المتعبد الراكع أمام وثنية النفط؟
• نشرة كنعان الالكترونية