الصدقات ليست الحل
حل شهر رمضان. في صبيحة أول أيامه حملت صحيفة الأهرام – كبرى الصحف الحكومية– في عنوانها الرئيسي بالصفحة الأولى البشرى للمصريين. البشرى تقول نصاً: مبارك يوافق على خطة «الوطني» لتوزيع هدايا رمضان – مليون «حقيبة» أغذية للأسر الفقيرة من الحزب والجمعيات الأهلية.
في تحقيق بالصفحة الثالثة من الصحيفة نفسها نقرأ العناوين التالية: ونحن نستقبل الشهر الكريم القاهرة تعاني من نقص المياه!.. والأزمة مستمرة في الكوم الأخضر بالجيزة.
في تحقيق آخر بالصفحة 12 من الصحيفة نقرأ: بعد أن زاد تشردهم في الشوارع وتحت الكباري: 84 داراً فقط لرعاية 3.5 مليون مسن منهم 150 ألفا مصابون بالزهايمر.
لكن المفارقة ستكون صادمة إذا ما وضعنا ما سبق في مواجهة ما أعلنته الحكومة من أن النمو الاقتصادي قد زاد معدله في العام الأخير عن 7 %. إلا أنه نشر منذ أيام أن التضخم تجاوز مؤخرا نسبة 23 %.
هناك إذاً اعترافات مباشرة وغير مباشرة، رسمية وغير رسمية بعمق الكارثة التي تعيشها البلاد.
المدهش أن المليون «حقيبة» أغذية التي سيوزعها مناصفة حزب الجماعة الحاكمة والجمعيات الأهلية ، تقدم باعتبارها خطة لإنجاز اجتماعي هائل لهذا الحزب. ولم يسأل أحد من هؤلاء نفسه عن سبب وصول مليون أسرة لحد الجوع، علماً بأنه يوجد أضعاف هذا الرقم من الأسر التي لن تحظى بكرم الجماعة الحاكمة. ربما يظن هؤلاء أن هذه الصدقات هي في إطار التصريحات التي أصابتنا بالملل عن «مراعاة البعد الاجتماعي» لتمرير بيع الأصول والثروة المصرية لرأس المال الصهيو-امبريالي وما ينجم عن ذلك من تدمير لمعظم هذه الأصول والثروات، ووضع مقومات الحياة في بلادنا في أيدي الأجانب وأتباعهم من السماسرة المصريين.
في الأعوام السابقة شاعت ظاهرة ما يسمى «موائد الرحمن». وبجانبها الحقائب التي تقدم كرشوات انتخابية في المناسبات (رمضان والأعياد ودخول المدارس). ألغيت «موائد الرحمن» هذا العام. كانت لنا انتقادات حادة عليها لأنه كان وراء الأكمة ما وراءها بالنسبة لمعظم من كانوا يقيمونها. إذ أن إفقار الناس إلى هذه الدرجة وتحويل حقوقهم الاجتماعية إلى مجرد صدقات وعمل خيري غير منزه عن الغرض هو إهانة تدمي كرامة المواطن في واقع الأمر. وهو تضليل يستهدف تزييف الوعي والحد من آثار الاحتقان الاجتماعي. وهو ما ثبت عدم جدواه بعد تفاقم الصراع الطبقي وما شهدته البلاد من احتجاجات وانتفاضات لم تتوقف من العمال والفلاحين الفقراء وحتى الفئات الوسطى وعلى رأسهم القضاة وأساتذة الجامعات. فماذا سيكون حجم تأثير مليون «حقيبة» أغذية في حين يقف 40 مليون مصري أسفل خط الفقر وفوقه مباشرة؟
أما عن مأساة المسنين، فيقول التحقيق الصحفي إن «القاهرة الكبرى» بها فقط 6 دور تقبل المسنين، يتراوح الأجر بين 300 جنيه وخمسة آلاف جنيه، والمجاني غائب أو بوساطة قوية بشرط أن يكون قادراً على خدمة نفسه. والغريب أن الصياح المقيت الذي يطلقه أنصار ما يسمى «المجتمع المدني وحقوق الإنسان» الممولون امبريالياً وصهيونياً لا تعنيهم هذه الأمور. في حين يقول التحقيق الصحفي إن معظم الجمعيات العاملة تهرب من الخدمة الشاقة والتكلفة الزائدة وتطالب وزارة التضامن بالدعم المادي.
إن مجتمعاً أشاعت فيه الطبقة الكمبرادورية الحاكمة وعمقت الميل إلى التطفل، لا يمكن له أن ينتج عملاً اجتماعياً من هذا النوع يتصف بالنزاهة. لقد تحولت الغالبية الساحقة من هذه الجمعيات «الخيرية» إلى مجال للإثراء الهائل، إذ تطالعنا الصحف الكبرى باستمرار بإعلانات تروج للتبرع لبعض (جمعيات كفالة الطفل اليتيم) على صفحات كاملة، قد تصل تكلفة الإعلان الواحد ما يساوي 50 ألف دولار!
إن المجتمع يدفع ثمناً باهظاً للغاية نتيجة للسياسات التي أبعدت الدولة عن دورها الاجتماعي تحت شعارات الإصلاح الاقتصادي والسياسي واقتصاد السوق، أي الليبرالية الجديدة المتوحشة.
لا يفسر لنا المتمترسون على سدة الحكم، كيف تزيد نسبة النمو عن 7 % حسب تصريحاتهم بينما تتدهور الظروف المعيشية للغالبية الساحقة من الناس بشكل مطرد. إن عجزهم عن التفسير يعود إلى أن هذا النمو كاذب في جوهره، لأنه لايتحقق في الإنتاج الصناعي والزراعي المتدهورين، وأنه يتحقق من أنشطة لاعلاقة لها بالإنتاج مثل التجارة والمضاربات والسمسرة في كل شيء والأنشطة المالية والموارد الريعية غير المتجددة (البترول والغاز) أو قناة السويس، وما شابه ذلك. إنه نمو – حتى لو كان صحيحاً- لايعتمد على الإنتاج والعمل.
إن تاريخ مصر الطويل يؤكد أن الأمة المصرية التي تبلورت وتكونت كأول أمة في التاريخ منذ سبعة آلاف عام أنجزت ذلك عبر دور حاسم للدولة في الشأن الاقتصادي الاجتماعي- وفق الإطار التاريخي والظروف التاريخية ومستوى التطور بطبيعة الحال- وهكذا تم بناء الحضارة المصرية. وهو ماكان يضمن وحدتها. وقد تأكد ذلك في العصر الحديث بمشروع النهضة الذي قاده محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ثم مشروع النهضة الذي قاده جمال عبدالناصر أواسط القرن العشرين بعد أن ثبت له عجز البرجوازية المصرية عن انجاز أية تنمية بعد توقف قوة الدفع لمشروع طلعت حرب من ناحية وسيطرة الأجانب واليهود شبه الكاملة على أهم الأنشطة الاقتصادية من ناحية أخرى، وتخلف كبار الملاك الزراعيين وارتباط كبار البرجوازيين المصريين برأس المال الأجنبي من ناحية ثالثة. ولعل ذلك يبين بجلاء أن إنهاء دور الدولة في الشأن الاقتصادي– الاجتماعي وتركه للأفاقين الأجانب والمصريين يمثل خطراً محققاً على بقاء الوطن واستمراره.
إن محاولة ستر الدمار والخراب الذي سببته سياسات هذه السلطة بما يسمى «العمل الخيري والإحسان» و«حقائب الطعام» المتبقي من فتات موائد اللصوص وطواغيت المال لن يؤجل انفجاراً شعبياً بات وشيكاً.
لأن الصدقات لن تكون هي الحل.