«صفحة جديدة... بالإكراه»
في برامج الحاسوب المختلفة هناك أوامر مثل «فتح صفحة» أو «إدراج شريحة» أو «ورقة»، وكذلك عمليات «قص» و«نسخ» و«حذف» و... «إقحام»، الخ من التعليمات «البديهية». غير أنه ومع السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة هناك تعليمة حاسوبية «ذكية» جديدة: فتح أو إدراج، ولكن «بالإكراه»..!
فقد ترافق «الحديث» عن «رغبة» إدارة أوباما «بفتح صفحة جديدة في التعامل مع العالم بما فيه سورية»، و«تعزيز» هذا «الإيحاء» عبر إرسال مختلف الوفود إلى دمشق بعد فترة من «القطيعة»، ترافق مع تسعير الضجيج حول سورية وبخصوصها. مرة، ارتباطاً ببحث «الملف النووي السوري» في اجتماعات خاصة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإطلاق تسريبات حول ثبوت وجود آثار يورانيوم ومشتقاته لا علاقة لها بالقذائف الإسرائيلية (أو الأمريكية- لا أحد يعرف!) التي أصابت موقعاً في دير الزور في عام 2007، خلافاً للتأكيدات السورية. ومرة ثانية بالضجة الإعلامية «المسيسة مسبقاً» والمترافقة مع بدء عمل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري الأب. وهو ما يجعل تلك العلاقة الجديدة المرتقبة بين دمشق وواشنطن قائمة من وجهة نظر الطرف الآخر ليس على «الاحترام المتبادل ومحاولة فهم قضايا المنطقة من أطرافها المعنية»، بقدر ما هي قائمة، كما كانت الحال مع الإدارة السابقة، على محاولات الابتزاز والإملاء، مع إضافة بسيطة ومبتكرة في آن معاً: «ود بالإكراه»!
وضمن هذا المفهوم، قام عدد من النواب الأمريكيين، مرة أخرى، في 26 شباط 2009، برفع مشروع قانون جديد ضد سورية تحت الرقم 1206 إلى مجلس الشيوخ الأمريكي تحت عنوان «قانون محاسبة سورية وتحريرها»، هو عبارة عن «تنقيح» للقانون الصادر سابقاً في تشرين الأول 2002 من حيث تشديد العقوبات على سورية، والعمل «على مواجهة التهديد الذي تمثله سياساتها، ودعم الانتقال إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً فيها».
وأبرز ما ينص عليه مشروع القانون المطالبة بـ«تشديد العقوبات على سورية لدعمها الأعمال والمنظمات الإرهابية وإيوائها، وتطويرها صواريخ بعيدة المدى وأسلحة كيميائية وبيولوجية وإشعاعية وربما نووية، وتدخلها المتواصل في شؤون لبنان الداخلية». ويدعو النص أوباما للاقتراح على مجلس الأمن فرض حصار دولي على سورية، بموجب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة.
وحتى عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون من تل أبيب عزمها على إرسال موفَدين إلى دمشق، ربطت ذلك «ببحث بعض القضايا معها و(معالجة) القلق الذي تمثله سورية»، مشيرة إلى أنه «من الصعب التكهن بشكل العلاقة المستقبلية مع سورية»، وإلى «ضرورة أن تعود هذه الخطوة بفوائد على الولايات المتحدة وحلفائها وقيمهم المشتركة»!
«الإكراه».. فلسطينياً- عربياً
وهذه الأخيرة، أي «القيم المشتركة»، هي ما شددت عليه كلينتون خلال مؤتمر صحفي مشترك مع مجرم الحرب الصهيوني شيمون بيريز، في توصيفها لطبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بما يتعدى المصالح بالمعنى المباشر، مقدمة في الوقت ذاته فروض الطاعة الأمريكية بالالتزام المطلق في كل زمان ومكان بـ«أمن إسرائيل»، ومكتفية أمام «المتشدد» نتنياهو بتكرار مبدأ «إقامة دولة فلسطينية». في حين رد عليها الأخير، الذي يعارض هذه الفكرة لمصلحة إقامة «كيان حكم ذاتي فلسطيني داخل دولة إسرائيل اليهودية»، بأن على واشنطن وتل أبيب «أن يجدا لغة مشتركة»، وذلك في وقت تمخض فيه «جبل التودد» لغزة وشهدائها عبر مؤتمر إعادة إعمارها، الذي انعقد في شرم الشيخ، عن وعود بأموال تم تقنينها عما أعلن عنه سابقاً، ولكنها بقيت مشروطة سياسياً بالانقياد «وطنياً» خلف محمود عباس، وبألا تصل إلى حكومة «حماس»، المغضوب عليها أمريكياً-إسرائيلياً-أوربياً- وحتى من غالبية الأنظمة العربية.
كما ينسحب هذا «التودد» العجيب على العراق وإقليم دارفور في السودان. فانسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من الأول سيبقى رغم كل التهليل المرافق له ولجدولته الزمنية في 2010(؟؟!!)، انسحاباً مبتوراً وكاذباً مع الإبقاء على قوة تتراوح بين 30 - 50 ألف جندي أمريكي «لتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب سواء مع قوات الأمن العراقية أم بدونها»، ومن أجل «تدريب وإعداد القوات العراقية، لحماية مشاريع الإعمار المدنية وأعضاء السلك الدبلوماسي والمشاريع الدولية»، أي المشاريع التي تنفذها شركات النهب المقونن للثروات العراقية.
أما مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهمة ارتكابه جرائم حرب في دارفور، وتعلن اعتقاله فور مغادرته السودان، فهي عجيبة من العجائب، لا لأنها «تنتصر» لسكان الإقليم الذي كان مسرحاً لتدخل إقليمي دولي واسع، ولا لأنها تطال رأساً جديداً من رؤوس النظام الرسمي العربي، بل لأن حيثياتها تشكل مفارقة تفقأ العيون بالمقارنة مع «العدالة الدولية» ارتباطاً بما يجري في فلسطين المحتلة. حيث يجاهر رئيس المحكمة وممثل الإدعاء لويس أوكامبو، بأن لدى المحكمة «أكثر من مائة شاهد» على «انتهاكات الجيش السوداني» التي «قتلت ما لا يقل عن 35 ألف مدني كما تسببت بموت بطيء لما يتراوح بين ثمانين ألفا و265 ألفا شردهم القتال». حسناً، ألا يوجد مئات آلاف الضحايا والمشردين والنازحين من العرب والفلسطينيين من جراء الجرائم الإسرائيلية المستمرة منذ ما قبل النكبة، مع وجود آلاف الشهود عليها؟
...على المسار الإيراني
منطق «التودد المبتكر» ذاته تمارسه واشنطن أوباما مع طهران. فالحديث عن الحوار الأمريكي معها رافقه تأكيد من كلينتون ذاتها، ومن تل أبيب أيضاً، بأن إيران تمثل «تهديداً مشتركاً» للحليفين، وهو ما تلقفه قادة الكيان بوجوب «تشكيل تحالف دولي ضد إيران»، وما تلقفته وثيقة إسرائيلية أعدتها وزارتا الخارجية والحرب، حسب صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وقدمت لكلينتون، تحذرها من «مخاطر» هذا الحوار، وتنص على «وجوب أن يأتي أي حوار مع إيران بعد فرض عقوبات صارمة عليها عملاً بقرارات مجلس الأمن بسبب رفضها تعليق نشاطاتها النووية الحساسة».
كما رافق ذلك مجموعة من التسريبات «البوليسية التهويلية» حول إيران، من بينها ما ذكرته الصحف الأمريكية من أن «شركة تراقب سلامة مواقع شبكة الانترنت عثرت على وثائق هندسية متعلقة بنوع من الحوامات التي يستخدمها الرئيس الأمريكي على كمبيوتر في إيران بعد أن كشف عنها سهواً مدير تنفيذي في الصناعة الدفاعية الأمريكية العام الماضي»(!)، أو تصريحات وزير الدفاع الأمريكي بضرورة إقناع روسيا بالعمل مع واشنطن بصورة «مشتركة ومتكافئة» على حل المشكلة الإيرانية و«توفير الأمان النووي»، «لأن الصواريخ التي يجربها الإيرانيون قد تستطيع الوصول إلى روسيا وإلى أوروبا الشرقية والغربية على حد سواء»، ولأن «الهدف من نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في شرق أوروبا هو إيجاد الحماية من تهديدات إيرانية محتملة وليس تهديد روسيا»، والتلويح بالتالي بـ«صفقة» أمريكية- روسية «تتراجع» فيها واشنطن عن مد الدرع مقابل نجاح موسكو في مسعاها المذكور مع طهران، علماً بأنه لا أمريكا ستتراجع عن مد صواريخها (لأن التهديد الأكبر لواشنطن من وجهة نظرها هو روسيا)، ولا إيران ستتراجع عن برنامجها النووي، أي أن أية صفقة مفترضة ستكون في الهواء.. ولكن الثابت هو المزيد من قرع طبول الحرب وتهيئة أجوائها، ومن بين ذلك التصريحات الملتبسة لوزير الخارجية الايطالي فرانكو فراتيني من أن «حرباً مع إيران ستكون كارثة بالنسبة للعالم بأسره»، مستدركاً أنه مع الانخفاض الحالي الحاد في أسعار النفط «فإن فكرة فرض عقوبات فعلية سيكون لها أثر رهيب»!
وكانت إيران، بمحافظيها ومعتدليها، استقرأت تعيين إدارة أوباما لدينيس روس مستشاراً خاصاً للشؤون الإيرانية كخطوة تصعيدية تتناقض بوضوح مع أقوال أوباما عن رغبته في إحداث تغييرات في العلاقات الإيرانية-الأمريكية، بل هي تتعلق برغبة المذكور في إحداث «ثورة حريرية» في إيران. فبينما تهكم كاظم جلالي عضو لجنة الأمن القومي والساسية الخارجية في البرلمان الإيراني، قائلا إنه «كان من الأفضل بكثير تعيين أرييل شارون أو إيهود أولمرت» (بدلاً عن روس)، أعرب محمد أبتاحي، نائب الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، عن اعتقاده «أن الأمور تقود إلى نقطة قد يلتقي فيها الإجماع على مواجهة مع إيران»، علماً بأن بعض الباحثين في الولايات المتحدة ذاتها لا يختلفون مع هذا الرأي، حيث قال وليام بييمان، الأستاذ الباحث في دراسات الشرق الأوسط بجامعة مينيسوتا، إن «خلفية روس المعادية لإيران قد تمثل عقبة على طريق بدء محادثات إيجابية»، مذكّراً بأن روس كان ضمن الموقعين على مشروع «القرن الأمريكي الجديد» الذي دعا لغزو العراق في التسعينات.
الإمبراطورية المكرهة!
في نهاية المطاف، وإذا كان «الإكراه» كمفهوم وأسلوب ودلالة، أمراً مستخدماً منذ القدم في العلاقات «الاجتماعية» و«الأمنية»، وتبعها في بعض المبادلات «الاقتصادية» و«السياسية»، فإن لغة وأداة الإكراه ذاتها، وبغض النظر عما يسبقها أو يليها من مبررات ومسوغات، تحاول واشنطن فرضها في علاقاتها «الدبلوماسية» مع دول منطقتنا، في وقت تجد فيه ذاتها، تحت وطأة تناقضاتها الداخلية والخارجية، إمبراطورية «مكرهة» على الانهيار.