شرعية السلطة.. سقطت نهائياً
يستثيرني دائماً كلام المسؤولين وتصريحاتهم بدءاً من مبارك إلى رئيس وزرائه إلى مجمل الوزراء وعلى رأسهم الفريق الاقتصادي حول معدلات النمو في مصر، خصوصاً إذا ما علمنا أن المعدلات التي يدعونها هي مجرد خداع.
بعض الحقائق توضح تطور واقع مصر على يد السادات (سلباً) ثم وصولها للحضيض على يد مبارك وعائلته كقمة للطبقة الحاكمة.
كان متوسط معدل النمو الحقيقي في مصر فيما بين الأعوام 1956-1966 هو 6.7 % سنوياً.
كان مجمل ديون مصر عند رحيل الرئيس جمال عبد الناصر لا يتجاوز 2 مليار دولار من بينها 1.2 مليار دولار هي كل الديون المستحقة للإتحاد السوفييتي. وذلك مقابل عملية التنمية الشاملة (التصنيع- استصلاح الأراضي- السد العالي- تسليح الجيش حتى عام 1967 - الحقوق الاجتماعية... الخ).
تراجع معدل النمو قليلاً بعد هزيمة 1967 حتى عام 1969 ووصلت نسبته إلى 4 % سنوياً، وكان هذا التراجع بسبب الإنفاق الهائل على إعادة تسليح الجيش والمجهود الحربي إذ لم تتوقف التنمية الشاملة للحظة. وارتفعت النسبة ووصل متوسطها إلى 5.19 % سنوياً فيما بين عامي 1969 - 1973.
حتى عام 1973 كان مستوى التطور الاقتصادي المصري يتساوى مع مستوى التطور الاقتصادي في كوريا الجنوبية (لكن توزيع الفائض في مصر كان أكثر انحيازاً للطبقات الشعبية، أي أن التطور الاجتماعي المصري كان هو الأفضل).. الآن لا مقارنة.
كان عدم التراجع في الإنفاق على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعلى الإنفاق العسكري بعد غياب جمال عبد الناصر وحتى حرب أكتوبر 1973 هو نتيجة للضغط المحلي على السادات.
في عام 1974 بدأ السادات سياسات الردة، وفتح الباب على مصراعيه لرأس المال الأجنبي تحت عنوان «الانفتاح الاقتصادي» الذي فتح باب الاستدانة، حتى الآن، وكانت مسيرة وسياسات النظام في العودة إلى أحضان رأس المال الإمبريالي (والصحيح تحت حذائه) مؤديةً بالطبع إلى امتصاص وابتلاع وتجريف إمكانيات البلاد ومقومات حياة الشعب.
أعلن السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، حتى تستريح مصر من استنزاف مواردها ويستريح الشعب (وواصل مبارك الموقف نفسه).
وصلت قيمة المساعدات العربية فيما بين عامي 1973 - 1976 إلى أكثر من 6350 مليون دولار منها نسبة 57 % منح لا ترد. وبدأ معها مسلسل الاستدانة، وتلقت البلاد قروضاً من مؤسسات عربية لتغطية العجز في الميزان التجاري الذي تجاوز 6200 مليون دولار (ليس فيها نفقات تسليح طبعاً). هذا العجز تسبب فيه فتح السوق للاستيراد دون ضوابط.
رغم أن نسبة النمو فيما بين عامي 1974 - 1979 وصلت إلى 10.94 % (كانت قناة السويس قد تم فتحها كما عادت السياحة). غير أن هذه النسبة العالية كانت في الواقع وهمية لأن البلاد كانت مثقلة بالديون. وظهر أثر ذلك من عام 1980 حتى عام 1992 (أي قبل مقتل السادات بعام) إذ انخفضت نسبة النمو في هذه السنوات إلى 1.8 % في المتوسط، واستمر التراجع بعد ذلك إذ عمق مبارك دون أن يتوقف للحظة واحدة أمام التردي الواضح عن استمرار سياسات النكبة.
حسب بيانات وزير المالية (وهي بيانات ملتبسة وتعوزها المصداقية إذ أنه يعمل على تجميل الوضع الاقتصادي) فقد ارتفعت الديون الخارجية نهاية ديسمبر 2007 بنسبة 13.4 % إلى ما يعادل 32.8 مليار دولار. كما زادت الفوائد المدفوعة عن القروض بمقدار 6.4 % لتسجل 39 مليار جنيه في الشهور العشرة الأخيرة. ونما العجز التجاري بنسبة 61.6 % ليصل إلى 16.8 مليار دولار.
وفيما لا تتوقف الإدعاءات الكاذبة والمضللة عن وصول معدل النمو الاقتصادي إلى نسبة 7 % سنوياً، فأن الغالبية الساحقة من الشعب تتردي أحوالهم كل ساعة.
لو افترضنا أن هذه النسبة صحيحة. فإنه ينبغي الانتباه إلى ما يلي:
أن هذا النمو مثقل بديون تتجاوز الناتج القومي الإجمالي (أي حد الخطر).
أن بيانات الحكومة تغفل عمداً أن مدخلات هذا النمو عبارة عن موارد هائلة كلها ريعية، أي تأتي من رسوم المرور في قناة السويس ومن السياحة ومن ارتفاع أسعار البترول، والأهم من البيع العارم للأصول المصرية. والأكثر أهمية هو أن مستوى استخراج البترول في ظل محدودية الاحتياطي هو جريمة في حق الأجيال القادمة، وأن بيع الأصول هو جريمة في حق الأجيال السابقة التي ضحت من أجل إقامتها، وفي حق الجيل الحالي والأجيال القادمة.
أن الزيادة الرقمية في معدل النمو تضيع نتيجة رفض مبارك لزيادة إنتاج القمح (وفي هذا الأمر تفاصيل كثيرة) حيث أن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم.
لكن الأنكى من كل ما سبق هو الحجم الهائل للموارد المالية التي وصلت إلى مصر، ومعظمها في عهد مبارك، حيث بلغت إلى ما يزيد على 200 مليار دولار. يقابلها (وياللمفارقة) ما يزيد على 200 مليار دولار مهربة إلى الخارج (أي مسروقة من الشعب المصري وتمرح في بنوك الغرب وبورصاته).
وسط هذا الوضع المأساوي لا تستطيع هذه السلطة استمرار تأمين رغيف الخبز للمواطنين أو تأمين العلاج والتعليم المجانيين... الخ. أي أن الشعب لن يمكنه إعادة إنتاج نفسه.
تتجاوز جريمة الطبقة الحاكمة عملية الاستئثار (كشريك أصغر لرأس المال الصهيو- إمبريالي) على الجانب الأعظم من الفائض وترك قرابة 70 مليوناً من المصريين تحت وعلى وقرب خط الفقر. تتجاوز ذلك إلى استنزاف الفائض مقدماً من الأجيال القادمة بإغراق البلاد في الديون ونهب وتجريف وتخريب كل شيء وتدمير صحة الشعب... الخ، بما يضع على أكتاف الجيل الحالي والأجيال القادمة أعباء هائلة تفوق الوصف.
لقد سقطت شرعية السلطة، ولا يمكن لعدد مليون و700 ألف مكرسين- وحسب الإحصاءات الرسمية- لحماية هذه السلطة، أن يثبت شرعيتها. مكوناتهم تتمثل في 850 ألف ضابط وشرطي وموظف في وزارة الداخلية و 450 ألف فرد في قوات الأمن المركزي و400 ألف مخبر سري.
أن هذا الرقم الهائل يعني أن السلطة تخصص رجل أمن لكل 37 مواطن، ليس لتوفير الأمن لهم ولكن لحماية أمن سلطة فقدت الشرعية. ذلك أن تأمين استمرار هذه السلطة قد أصبح مستحيلاً مهما فعلت.