في الذكرى الثمانين لميلاد جيفارا.. «إنَّ الطَّريق مظلم وحالك، فإذا لم نحترق أنا وأنتَ فمن سينير الطَّريق؟!»... • تشي جيفارا
ولد أرنستو تشي جيفارا في 14 حزيران عام 1928 من عائلة برجوازية أرجنتينية، ودرس الطب في جامعة بلاده الأرجنتين وتخرج عام 1952، ومارس مهنته بين فقراء المدن والفلاحين ووهب نفسه لهم وكان صديقهم التاريخي، وطاف قبيل تخرجه من كلية الطب مع صديقه ألبرتو غراندو معظم دول أمريكا الجنوبية على الدراجة النارية. فزار إضافة لبلده الأرجنتين، تشيلي وبوليفيا وبيرو وكولومبيا والإكوادور وبنما، وذلك بهدف التعرف على ظروف الناس وأحوالهم وأحوال أمريكا الجنوبية بشكل عام مستجيباً لرغبته بملاقاة الشعب والاختلاط به ومساعدة الفقراء والمرضى. كان مريضاً بالربو.. رقيق الجسد.. رقيق المشاعر.. أحس بمعاناة الضعيف والفقير.. على الرغم من أنه من عائلة غنية.. كان خجولاً وجريئاً في الوقت نفسه.. كان ذا روح محبة ومحبوبة على الرغم من مظهره العابث... كان يلتقط أحاسيس الطبيعة ومعاناة الوجوه ليبرزها في صوره الفوتوغرافية.. وكان يعزف الجيتار بأنامل حريرية.
كان طبيباً تطوع في الكثير من المهمات الإنسانية والمآسي التي تترك خلفها البسطاء والفقراء بعيون باكية تشكو له الظلم وعدم الفهم.. كان صائداً للفراشات.. لكنه أبداً لم يرض عن صيد النفس البشرية وأسرها وإذلالها في أرضها.. لم يرض بالظلم الواقع من القوي على الضعيف لا لسبب سوى أنهم لا يستحقون الحياة لأنهم الأدنى...! لهذا: اتخذ من «العنف» سلاحاً.. لأنه آمن «أن الشعوب المسلحة فقط هي القادرة على صنع مقدراتها واستحقاق الحياة الفضلى» برغم رقته وشاعريته وضعفه. اختلف مع كاسترو على عدم اعتبارهما من المحررين لأنه آمن وردد دائماً «المحررون لا وجود لهم، فالشعوب وحدها هي التي تحرر نفسها».
اتخذ من الصدق مبدأً.. مع نفسه أولاً ثم مع الغير.. وغادر كوبا متنازلاً عن كل مناصبه وسلطاته راحلاً إلى مناصرة قضايا أخرى.. تشيلي، وفيتنام، والجزائر.. وزائير مردداً «إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني».
جيفارا أسطورة نضال ورجولة ومجد أمة أمريكية لاتينية جنوبية لا شمالية خلدها التاريخ ونحتت في أذهان الشباب صورة البطل القوي المدافع عن تراب الوطن وكرامة الأمة ومجد أبنائها . جيفارا مات منذ سنين طوال واسمه يتعاظم تردداً بين الناس وقصة نضاله واستشهاده وأسلوب وحشية عصابات اليانكي الأمريكية في اللحظة التي ألقت القبض عليه في الغابة البوليفية البعيدة وهو جالس بمحاذاة حائط أو ما هو في حكم الجدار ومن إطلالة عينيه المدهشتين كان يشع كل ذلك الذكاء والدفء والغضب في الآن ذاته.. هذه القصة تتناقلها الكتب والمطبوعات في تنافس مع ألسن المتحدثين والمتابعين وكأن البطل يحيا كل صباح ليقاتل طغاة الحرية والديمقراطية في النهار ثم يحيا في الليل ليقاتل أيضاً بسلاحه الفتاك جيوش المارينز وعصابات المرتزقة وريثة اليانكي التي قتلت جيفارا، نعم مات أو استشهد جيفارا كما يستحق القول عنه واسمه يملآ الملصقات الجدارية ودعايات المواد الاستهلاكية في أمريكا الشمالية ومنها المشروبات برغم كراهيتهم له، لكن كل من ينظر إليه تتكرر له قصة نضال وشجاعة هذا الرجل وطريقة قتله البشعة عندما أطلق عليه الرصاص ومات لمجرد أنه دافع عن كرامة وعزة واستقلال بلده.
في يوم 8 أكتوبر1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فرداً، وقد ظل جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات في منطقة صخرية وعرة، تجعل حتى الاتصال بينهم شبه مستحيل. وقد استمر تشي في القتال حتى بعد موت جميع أفراد المجموعة رغم إصابته بجروح في ساقه إلى أن دُمّرت بندقيته وضاع مخزن مسدسه وهو ما يفسر وقوعه في الأسر حياً. نُقل تشي إلى قرية لاهيجيراس، وبقي حياً لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل كلمة واحدة مع من أسروه. وفي مدرسة القرية نفذ ضابط الصف ماريو تيران تعليمات ضباطه: ميجيل أيوروا وأندريس سيلنيش بإطلاق النار على تشي... دخل ماريو عليه متردداً فقال له تشي: أطلق النار، لا تخف، إنك ببساطة ستقتل مجرد رجل، ولكنه تراجع، ثم عاد مرة أخرى بعد أن كرر الضابطان الأوامر له فأخذ يطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل تحت الخصر حيث كانت الأوامر واضحة بعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، إلى أن قام رقيب ثمل بإطلاق رصاصه من مسدسه في الجانب الأيسر فأنهى حياته..! وقد رفضت السلطات البوليفية تسليم جثته لأخيه أو حتى تعريف أحد بمكانه أو بمقبرته حتى لا تكون مزاراً للثوار من كل أنحاء العالم.
فكم صورة لأبطالنا سيشاهدها شباب أمريكا على ملصقات استهلاكية وهي تحكي لهم تفاصيل التضحية والمجد والرفعة سنراها ولو بعد حين. إن ما يجعلنا نشعر بالفخر في أمة العرب أن شبابنا يتطلعون في ردود أفعالهم على طريقة مقتل جيفارا البشعة بسلاح عصابات اليانكي الأمريكية حين نقرأ لهم وقد سجلوا بتأثر شديد كلمات وفاء وإعجاب وتقدير لهذا الرمز الأممي الذي يزداد خلوداً في مواقع إخبارية عدة نشرت صور إعدامه.
كلمة قالها شاعرنا أحمد فؤاد نجم عن جيفارا وهو متخيل لحظة موته:
عيني عليه ساعة القضا من غير رفاقه تودعه.../ يطلع أنينه للفضا يزعق ولا مين يسمعه.../ يمكن صرخ من الألم…. من لسعة النار في الحشا /يمكن ضحك… أو ابتسم.. أو ارتعش ….أو انتشى/ يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لأجل الجياع للي/ حاضنين القضية في الصراع صور كثير ملو الخيال/ ألف مليون احتمال لكن أكيد ولا جدال.. /جيفارا مات موتة رجال..!!
من أقوال جيفارا:
«الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن لا يهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الثوار منتصبين.. أن يبقى الوطن»
«الثوار يملؤون العالم ضجيجاً كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء»
«لن يكون لدينا ما نحيا من أجله.. إن لم نكن على استعداد أن نموت من أجله»
سيظل صدى هذه الكلمات يتردد، ويلهم المئات في كل مكان وزمان، ما دام الظلم والعنف يسودان هذا العالم. لقد قلت يا رفيقنا «الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويستغلها الأوغاد»... نعم يا «تشي» نحن نعيش في أيامنا هذه في غابة مليئة بالأوغاد.
هذا وقد أطلقت كوبا موقعاً إلكترونياً مخصصاً للاحتفال بالذكرى الثمانين لميلاد الثوري الأرجنتيني، الكوبي إرنستو تشي جيفارا، يتضمن صوراً، ونصوصاً، وملفات سمعية له، فضلاً عن شهادات وتعليقات مفكرين وعلماء لاهوت وفنانين لاتينيين حوله.
وقالت المسؤولة العلمية لمركز دراسات تشي جيفار في هافانا، ماريا كارمن أريت إن الموقع لا يتمركز فقط حول الاحتفال بذكرى ميلاد جيفارا، ولكنه أيضاً يبرز «أهميته العالمية في كل حركات المقاومة والكفاح، وما يمثله في قضية العدالة الاجتماعية».
ويقدم الموقع الإلكتروني أيضاً مجموعة من 20 ملصقاً، قام بتصميمها مصممو غرافيك، ينتمون لأجيال مختلفة في كوبا، كانوا يسعون لابتكار «صورة جديدة ومتجددة لتشي» في عمر الثمانين.