المسيح يصلب من جديد.. في ظل ديمقراطية الاحتلال!
منذ أن وطئت أقدام قوات الاحتلال أرض العراق، وتدمير بنية الدولة العراقية، وتبلور ما سمي بالديمقراطية التوافقية (ديمقراطية الطوائف، والقوميات والأديان)، منذ ذلك الحين عمّ القلق صفوف معظم الأقليات العراقية، ومنهم المسيحيون العراقيون، الأمر الذي ترجم بالهجرة الواسعة المؤقتة أو الدائمة من بلاد الرافدين حتى بلغ مئات الآلاف، وأخذ هذا الملف طابعاً دراماتيكياً في الفترة الأخيرة، وتحول إلى عملية تهجير قسرية تحت طائلة التهديد بالقتل كما حصل في مدينة الموصل، وما حصل إثر ذلك من هجرة أكثر من ألفي أسرة مسيحية من المدينة المذكورة بعد قتل العديد منهم.
مما لا شك فيه إن هذه الممارسات تعبير عن عقلية قروسطية، ودليل على الانحطاط القيمي، أياً كانت الأيادي الملوثة بالدم التي تقف خلف تلك الأعمال الهمجية التي خلقت ردود فعل سلبية من جانب مختلف الجهات بدءاً بتلك القوى الممثلة في حكومة الاحتلال مروراً بالكتاب والمثقفين والفعاليات الاجتماعية وانتهاء بفصائل المقاومة العراقية المسلحة التي رأت في هذه الأعمال إحدى وسائل تشويه صورتها أمام الشعب العراقي وشعوب العالم، مثلما أدانت المراجع الدينية المختلفة المسيحية والإسلامية تلك الأعمال، في حين رآها السياسي اللبناني أمين الجميّل استمراراً لمحاولة إخلاء الشرق من المسيحيين، ليتقاطع موقفه بذلك مع العديد من الصحف الغربية التي حللت الحدث في الاتجاه ذاته. وإذا كانت هذه مواقف القوى المختلفة، فان السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو من المستفيد من إثارة فتنة من هذا النوع؟ ومن المسؤول عنها..؟
وفق القانون الدولي فإن الدولة المحتلة لبلد ما هي المسؤولة عن أمن المواطن، ومن هنا فإن المسؤولية القانونية الأولى تقع بالضبط على قوات الاحتلال، بغض النظر عن أدوات التنفيذ، ولاسيما أن العراق لم يمر بمثل هذه التجربة المُرّة، كما صرّح بذلك رجال الدين المسيحي والإسلامي في العراق، ولا يوجد أي مبرر موضوعي لها، اللهم إلا إذا كان هناك من يريد ذرف دموع التماسيح على الأقلية المسيحية ليقدم نفسه حامياً لها فيما بعد وتحقيق أجندة سياسية، ولاسيما أن هذا السيناريو هو تكرار لسيناريو مشابه حدث إبان الاحتلال البريطاني للعراق في القرن الماضي..
أينما حلّ الاحتلال (قديماً وحديثاً) نجد فصولاً مختلفة من الحساسيات القومية والمذهبية والدينية والطائفية والقبلية، بالضد من حجج تلك الأقلام الليبرالية التي راهنت على الاحتلال في استجلاب الديمقراطية إلى مجتمعات تعاني من أنظمة استبدادية، ففي ظل الاحتلال (الديمقراطي) وكما تبين التجربة الملموسة- ومنها تهجير أبناء الأقلية المسيحية، وتهديدهم، وقتلهم- تم إحياء كل البنى الاجتماعية البائدة، الأمر الذي نتج عنه الميل إلى الانعزال والشك بالآخر والقلق على المصير، وبالتالي البحث عن مصادر قوة، ولما كانت أغلبية النخب العراقية الطائفية والقومية والدينية تراهن على قوات الاحتلال أولاً، فإن الاحتلال يلعب معهم لعبة العصا والجزرة ويوهم الجميع بأنه معهم في حين انه في الواقع ليس مع أحد بل مع نفسه ومصالحه وهذا ما تؤكده التجارب الكثيرة في تخلي الدول الاستعمارية عن (حلفائها) في المنعطفات الحاسمة وتركهم لنوائب الدهر ومصائبه، هذا ما فعلوه مثلاً مع أكراد العراق أكثر من مرة، والأتراك مع الأرمن والأكراد، وهذا ما فعله الانكليز مع مسيحيّ العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت النتيجة المزيد من المآسي والتهجير، وبالتالي محاولة التأسيس لبث الفرقة والتناحر بين شعوب وأقليات تؤكد كل حقائق التاريخ والواقع الموضوعي إن مصالحهم واحدة ومصيرهم واحد... لا يهم هنا كما أسلفنا أدوات التنفيذ، بل ما هو مهم أن يفهم الجميع إن ما يجري هو نتاج موضوعي لوجود الاحتلال ومشروعه القائم أصلاً على التفتيت والتقسيم وضرب الكل بالكل، وإذا وجد هنا وهناك من يحاول إعادة التاريخ إلى الوراء وفرض الجزية على الناس أو فرض دين أو مذهب ما عليهم، أو تحقيق أهداف سياسية لاحقة، فإنهم لا يمثلون ديناً أو قومية، وهم إن لم يكونوا مرتزقة للمستعمر بشكل مباشر فإنهم يخدمون مصالحه بكل تأكيد، والطريق الوحيد للخلاص منهم هو الخلاص من المستعمر نفسه باعتبارهم إحدى فضلاته.
إن الطريق الوحيد أمام شعوب الشرق هو التأسيس لمشروع مقاومة تاريخي ينهي كل أشكال الاحتلال، ويفتح الأبواب أمام الجميع إلى فضاءات الحرية والديمقراطية واحترام انتماءات الجميع القومية والدينية والمذهبية، على أساس الاعتراف المتبادل بالحقوق، والتعايش الأخوي التاريخي الذي يفرضه الواقع الموضوعي بعيداً عن أي شكل من أشكال الاستقواء بقوى استعمارية تنضح بالدم من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، حيث كانت لجميع شعوب الشرق حصة من المآسي والتهجير التي وجدت كلما حلت تلك القوى.