أهل عكّا في مواجهة تهويد مدينتهم

الاعتداءات العنصرية والوحشية، التي قام بها المستعمرون الصهاينة داخل مدينة عكّا المحتلة منذ عام 1948، والتي بدأت في عيد يوم الغفران اليهودي، يوم الأربعاء 8 تشرين أول الحالي، واستمرت لأسبوع تقريباً، أعادت للذاكرة الحية والمتوهجة التحركات الجماهيرية العظيمة التي شهدتها مدينة «الناصرة» المحتلة في «يوم الغفران» قبل ثماني سنوات، عندما قام سكان مدينة «الناصرة العليا» اليهود بالاعتداء على سكان الناصرة العرب، مما أدى الى سقوط شهيدين من الناصرة.

 وقد شكل هذا الحادث مع ارتدادات مواجهات الانتفاضة، داخل المدن والبلدات العربية المحتلة منذ عام 48، الشرارة التي أشعلت «النار في السهل كله»، فكانت «هبة أكتوبر» المجيدة، التي أكدت من خلال دماء أبنائها الشهداء الثلاثة عشر، عمق الإنتماء، والإرتباط بالشعب الفلسطيني، وبنضاله العادل من أجل التحرير والعودة. لقد أضافت «هبة أكتوبر» التي انخرط في نشاطها وأتونها، الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل منذ عام 48، دليلاً جديداً على وحدة الشعب في كل مناطق وجوده، في مواجهته وتصديه للمشروع الصهيوني/الاستعماري/الإحتلالي.

كانت حركة سيارة المواطن العربي «توفيق الجمل» الاضطرارية، داخل أحد أحياء مدينة عكّا، في تلك المناسبة اليهودية التي تتوقف فيها حركة المركبات- بناءً على التقاليد فقط، وليس استناداً إلى القوانين-الصاعق، الذي فجر براكين الحقد الصهيونية، التي تختزنها عقول ومشاعر هؤلاء المستعمرين، الذين كانوا يعملون جاهدين من أجل أن تتوفر لهم الأسباب/المبررات لتهجير العرب من الأحياء ذات الكثافة اليهودية المرتفعة، التي يسكن في بعض بيوتها، عدة عائلات عربية. جاءت ردود الفعل على حركة السيارة، لتشير إلى التحضير المسبق الذي كانت تخطط له القوى والهيئات العنصرية الفاشية، ليس في المدينة، بل على صعيد امتداداتها في الوطن المحتل. فالممارسات الوحشية لأعضاء ما يسمى بـ«الجبهة اليهودية»، وللمئات من المستعمرين السابقين، الذين أخلوا مستعمرات غزة، كـ«غوش قطيف» مثلاً، وللعديد من العناصر شبه العسكرية من طلاب المدرسة الدينية «يشفات ههسدير» والتي تجمع بين تعلم التوراة والخدمة العسكرية لأبناء التيار القومي الديني، والتي أقيمت في أحد أحياء المدينة، وللمئات الآخرين الذين قدموا من تجمعات عنصرية، فاشية من مدينتي صفد وطبريا وغيرها، أكدت أن هناك خطة منهجية، تقوم على الضغط على أهل عكّا العرب لمغادرة مدينتهم. وقد أكدت شهادات العديد من أهل عكّا، بأن هذه العناصر تسكن جماعياً في بيوت خالية، تم استئجارها لهم دون عائلاتهم، لمنع العرب من استئجارها، وأنهم مسلحون بأسلحة رشاشة يجاهرون بها في الحي المذكور ومقابل التجمعات العربية، في استعراضات استفزازية، بهدف التضييق على المواطن العربي، وارهابه، ودفعه لهجرة المدينة.

معاناة عرب عكّا من التهميش والتفرقة المزمنة ضدهم في كل ما يتعلق بالخدمات والبنى التحتية والعمل والبناء، هي نموذج صارخ لحالة المواطنين العرب، في عدة مدن ساحلية، والذين يشكلون 10% من مجموع الوجود العربي الفلسطيني في فلسطين المحتلة منذ عام 48. وجميعهم يعانون من أوضاع اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، سيئة للغاية. فلا توجد لديهم بيوت لائقة للسكن، وليس لديهم أراضٍ للبناء. في عام 1948 كان الفلسطينيون يمتلكون في وطنهم 80 % من الأراضي، وبفعل أوامر المصادرة، وسلسلة قوانين مرتبطة بها وتخدمها، لم يبق للعرب سوى 3.5 %، وتمنع حكومة العدو امتداد العرب لخارج الأحياء والمناطق المحددة لهم، مما يخلق حالة اكتظاظ سكاني كبير. كما يعاني المواطنون العرب من حرمانهم من فرص العمل، وهو مايظهر في أن نسبة البطالة بين فلسطينيي 48 تقارب ثلاثة أضعاف نسبتها بين اليهود، فالبطالة بين العرب تتراوح ما بين 12 % و14 % بالمعدل بينما بين اليهود هي دون 5 %. وبالإضافة إلى القوانين التعسفية، الموغلة في عنصريتها، في مجالات التعليم والخدمات الصحية، فالمدارس داخل المدن والبلدات العربية تعاني من نقص في الأبنية المدرسية، فهناك حاجة لخمسة آلاف غرفة تعليم، مما يؤدي إلى اكتظاظ مرعب في الصفوف الدراسية. كما يبرز التمييز في مراحل الدراسة المتقدمة، خاصة في الجامعات. إذ يتم وضع عراقيل كبيرة أمام دخول الطلبة العرب إلى المعاهد والجامعات «الإسرائيلية»، ولهذا ليس غريباً أن نجد أكثر من 11 ألف طالب يتعلمون خارج بلادهم، سبعة آلاف منهم يتعلمون في الأردن، وهذا عدد يفوق عدد  الطلبة العرب في الجامعات «الإسرائيلية».

خرج أهل عكّا العرب، للدفاع عن السائق العربي، ولحماية العائلات العربية، وبيوتها التي تعرضت لنيران العنصرية التي أتت على ثلاثة منها. المئات من الشباب العرب الذين هبّوا لنجدة أهلهم، كان لسان حالهم، كما يقول أحد الشبان: (نحن نعيش في طنجرة ضغط. وهم يضغطوننا أكثر وأكثر. من رئيس البلدية حتى الحكومة. نقول كفى، فعلاً كفى. هذه لم تعد حياة طبيعية). فاشية وعنصرية السلطة، ظهرت في ممارسات قوات الشرطة، التي كشفها شاب عكّاوي شارك بالدفاع عن وجود شعبه على أرضه (كان أفراد الوحدات الخاصة يطلقون علينا الأعيرة المطاطية، ويضربوننا بالهراوت، لكننا لم نر رصاصة واحدة اتجهت نحو اليهود). واصفاً تعامل هذه القوات معه أثناء اعتقاله (لقد وضعوني في سيارة الشرطة، وقالوا لي إياك أن تتحرك، وصار الشرطي يشتمني ويشتم العرب بعبارات نابية). هذه العبارات رددتها العديد من قيادات الأحزاب الصهيونية، وكتاب الصحف، وخاصة مانشرته بعض المواقع الالكترونية (يجب مداهمة العرب والنيل منهم بالقوة وطردهم من المدينة... إنهم كلاب ويجب التعامل معهم هكذا، وانه من اليوم يجب عدم احترام الأعياد الإسلامية والمسيحية والأماكن المقدسة لهم).

إن قراءة موضوعية لأحداث عكّا، تؤكد أن أهلها العرب قاوموا بكل شجاعة، محاولات سحق كرامتهم الوطنية، وطردهم، وتهويد مدينتهم. بتضامنهم وثباتهم على أرضهم، كانوا يردون على الظلم والعدوان، بكل مقدماته وتداعياته. إن ماتتعرض له عكّا ويافا وحيفا والرملة، ومدن وبلدات النقب والجليل من مخططات لإعادة «هيكلة وتنظيم» جديدة، عبر ماتسميه حكومة العدو تضليلاً وخداعاً بـ«التطوير»، والذي يعني في الواقع العملي والموضوعي «التهويد»، ماهو إلا صب للزيت على الجمر الكامن داخل هذه المدن منذ ستة عقود. ولهذا فإن ما أعادت تأكيده، اعتداءات المستعمرين على أهل عكّا، يضع المقولات المتداولة عن «التعايش» في المدن المختلطة التي سماها بعض الكتّاب في صحافة العدو «المدن المقسمة، المتفسخة»، في موقع الشك، إن لم نقل في مهب الريح!. فلا يمكن في ظل السيطرة والمصادرة، الناتجة عن الاحتلال، تفسير التواجد القسري على أنه تعايش، فقد علمتنا تجارب الشعوب، بأنه لاتعايش للضحية مع القاتل.

إن صمود أبناء البلد على أرض وطنهم، وفي مواجهة سياسة التهويد والاقتلاع، يأتي في مقدمة المهام المباشرة للنضال الشعبي الفلسطيني، باعتباره مهمة كفاحية راهنة، مما يتطلب تطوير أشكال التنسيق بين الأحزاب والقوى والمجالس العربية، من أجل وضع خطة تحرك مشتركة، توفر للأهل في عكّا وغيرها من المدن المهددة، مقومات الصمود والبقاء، وتبني في الوقت ذاته، أسس البرنامج الجماعي للعمل الوطني في المرحلة المقبلة.