النزعة الحمائية، أسعار صرف العملة، والحرب
يواصل جاك سابير تحليله للأزمة المنهجية التي يغرق فيها العالم في مقال بعنوان: «هل تؤدي النزعة الحمائية والتحكم بأسعار الصرف إلى الحرب؟ دروس الثلاثينات لفهم الأزمة الحالية».
نقرأ فيه، فيما نقرأ، العديد من المعطيات الإحصائية التي من المفيد دائماً التذكير بها؛ على سبيل المثال، وحتى حين بلغ العجز الحكومي هذا الدرك، كان عجز الأسر والشركات أكبر بكثير من العجز الحكومي: نحو ثلاثة أضعاف في الولايات المتحدة وخمسة أضعاف في بريطانيا العظمى وإسبانيا! أما في فرنسا، فكان أقل من ضعفين.
سابير يطور في دراسته فكرة بسيطة نسبياً، تنص على أن تنظيم أسعار الصرف والمبادلات والمديونية... لا تتعدى في واقع الأمر كونها إقامة إجراءات حماية ضد الاختلاس الذي يمارسه أصحاب رأس المال، ولاسيما على الأجور. لا يمكن لهذه الحماية إطلاقاً أن تمرّ إلا عبر فضاءاتٍ جغرافية يمكن فيها ممارسة هذا النمط من السيطرة؛ وهي تفترض بالتالي إرادةً حكوميةً تعارض هذا الاختلاس ولاسيما ذاك الممارس عبر السياسة الأمريكية وبفضلها.
حتى إذا لم تكن تلك خلاصةً صاغها جاك سابير، يمكن لنا أن نستنتج أنّ بعض النقاشات الجارية، في بعض النوادي السرية، للمطالبة بـ«حمائية» قومية بهدف معارضة انحدار الاتحاد الأوروبي هي نقاشات فيها شيء من البيزنطية طالما أن الحكومات القومية، ولاسيما حكومة فرنسا- تشارك بنشاط كبير في هذا الكبح للتضخم المالي في الأجور. ليس هنالك أدنى شك في أن السياسة الأوروبية لا تطاق، لكن مقايضتها، هنا والآن، بسياسة فرنسية لن يعني إلا «الانتقال من تحت الدلف إلى تحت المزراب».
ليس هنالك ما يعادل مدى الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية سوى أزمة العام 1929. وهي تؤثر على مجمل النظام المالي والنقدي الدولي، الذي توجب عليه أن يواجه بين الخامس عشر من أيلول 2008 ومطلع شهر تشرين الثاني أزمة عالمية غير مسبوقة في السيولة. مجمل النظامين المصرفي والمالي تأثر، وتتكشّف اليوم التأثيرات بكل حجمها على الاقتصادات الوطنية.
إذا كانت البلدان الكبيرة «الناشئة» (أو BRIC، أي البرازيل وروسيا والهند والصين) ستبقى قادرة على تقديم أداء اقتصادي مقبول (نمو بنسبة تقارب 3.5 بالمائة في روسيا وعلى الأرجح 7-8 بالمائة في الصين) على عكس ما جرى في أزمة العام 1997-1999، فقد دخلت البلدان المتطورة طور انكماش.
يبدو هذا الانكماش خطراً بصورة خاصة في الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2 إلى 3 بالمائة في العام 2009 وربما في جزء من العام 2010. كما ستتأثر الاقتصادات الأوروبية، لكن باختلافات ذات دلالة. إذا كانت بريطانيا العظمى وإسبانيا، اللتان قلدتا «النموذج الأمريكي» لاقتصاد مفتوحٍ جداً وممول، سوف تشهدان هما أيضاً انكماشاً خطيراً، بتراجعٍ في الناتج الإجمالي المحلي سوف يزيد بالتأكيد على 2 بالمائة، فمن المتوقع أن تعاني فرنسا وإيطاليا من صدمة أقل اتساعاً. لكن نلاحظ أنه ينبغي توقع انكماش بنسبة 1 بالمائة في الناتج المحلي الإجمالي في الجزء الأكبر من العام 2009 فيهما.
أما ألمانيا، فقد ضمن لها نموذجها «النيوميركانتيلي»، المبني على تقليص الطلب الداخلي ونقل فروع شركاتها المقاولة إلى الاقتصادات ذات كلف اليد العاملة القليلة لدى «الداخلين الجدد» إلى الاتحاد الأوروبي، حتى الآن أداءً حسناً في مجال الميزان التجاري. لكن كان يجري نسيان أن هذا النجاح قد تم بثمن تمثل في تزايد نسبة البطالة وانخفاض في الاستثمار. سوف تؤثر الأزمة كذلك على هذا النموذج تأثيراً دائماً وستكون له عواقب خطيرة ما وراء نهر الراين.
كما ستكون للأزمة عواقب خطيرة على الاقتصادات المحيطة بالاقتصادات الكبيرة المتطورة المتأثرة بالأزمة. لقد حول الانكماش بلدان البلطيق، التي وصفها البعض تعسفاً بأنها «نمور البلطيق الصغيرة»، إلى بلدانٍ لا تدين بخلاصها إلا لقروض صندوق النقد الدولي. إن انهيار أيسلندا، البلد الذي تعلم عن ظهر قلبٍ درس النيوليبرالية ولعب بعمق ورقة تمويل اقتصاده، معروف على نطاقٍ واسع. أما أيرلندا، التي كانت تقدم كنموذج النجاح لبلد أوروبي يدمج الإصلاحات الهيكيلية العزيزة على قلب النيوليبراليين مع انفتاحٍ كامل أمام البضائع ورؤوس الأموال ونسيان سريعٍ نوعاً ما لكمية المساعدات الأوروبية التي تلقتها، فتمثل الانحسار فيها في الصيف المنصرم في تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5 بالمائة.
وضع بلدان المغرب العربي وأمريكا اللاتينية أكثر دراماتيكيةً، إذ أدى عنف تقليص النشاط في إسبانيا إلى انفجار البطالة التي تمس في المقام الأول المهاجرين القادمين حديثاً. سوف تظهر المفاعيل في المغرب، وكذلك في الإكوادور. كما ستتأثر المكسيك، التي كان نموها ينتج عن الاستهلاك الأمريكي، تأثراً كبيراً من الأزمة المترسخة شمالي ريو غرانده، ناهيك عن أنّ صادراتها قد تأثرت أصلاً من المنافسة الآسيوية والصينية خصوصاً.
إن الأزمة عالمية حقاً.
• مدير الدراسات في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية EHESS.