الرأسمالية الصينية الجديدة
تمر الصين اليوم بعملية طويلة من الإصلاح الرأسمالي ابتدأت منذ ثلاثة عقود. الإصلاحات بدأت عام 1978، ثم توسعت وتعمقت، وأضعفت تدريجياً آليات الإقتصاد الموجه، وهي تلقى دعماً كبيراً منذ العام 1992. وفي التسعينيات حصلت عمليات جامحة وغير مقيدة لخصخصة الشركات الحكومية، ولبرلة الخدمات العامة. حالياً، يعمل أكثر من ثلثي الموظفين لمصلحة الرأسمال الخاص. وقد توج دخول الصين لمنظمة التجارة العالمية في بداية القرن الحادي والعشرين عملية إعادة اندماجها في الرأسمالية العالمية. ولحسن الحظ، لا يوجد سوى قلة قليلة من اليساريين المخدوعين بالنموذج الصيني. لكن ينبغي ملاحظة أن ثلاثين سنة من الترميم الرأسمالي قد خلقت رأسمالية متوحشة منفلتة من كل القيود والضوابط. وهذا هو الأفق الذي تتوجه صوبه البلاد، وذلك على الرغم من الحديث المنمق للرئيس «هو جينتاو» عن «المجتمع المنسجم».
الشواهد المتزايدة للكوارث الاجتماعية والبيئية التي يسببها النموذج الحالي للتراكم الرأسمالي في الصين، أدت إلى إجراء تغيير في الخطاب الرسمي الصيني، وتعديل في سياسة الحكومة، هدف إلى احتواء التفاوت الطبقي الحاصل، دون أن يصل إلى حد التغيير الواضح في النهج العام. عملية الإصلاح الاقتصادي والعودة إلى النظام الرأسمالي قادها الحزب الحاكم الصيني الذي غيّر كثيراً طبيعته. فقد صارت النزعة القومية العنصر الأساس في منهج وهوية الحزب الشيوعي الصيني، وتم استخدامها كعامل متماسك وشرعي في المشروع السياسي الصيني. تمر الصين حالياً بحالة من عدم توازن مناطقي كبير؛ إذ أدت الإصلاحات إلى استقطاب اجتماعي، وإلى تركز في الإيرادات، وإلى تفاوت طبقي متفاقم. وقد ارتفع مؤشر «جيني»، (المستخدم في قياس مستوى التفاوت الطبقي وحالات عدم التوازن في المجتمع)، من 0.30 عام 1980 إلى 0.48 واليوم يوجد بحسب تقارير المصرف الدولي 300 مليون فقير في البلاد.
يتركز الحجم الأكبر من النشاط الاقتصادي في المناطق الساحلية، (نالت في السنة الماضية نسبة 85 بالمئة من مجموع الاستثمارات الأجنبية)، وذلك مقارنةً بالمناطق الفقيرة في الداخل. يسبب النموذج الحالي للتنمية تكلفة بيئية باهظة، وتحديداً من ناحية تلويث الهواء والماء في المدن الكبيرة. القاعدة الاجتماعية للنظام الصيني هي البرجوازية الجديدة الصاعدة المرتبطة بأجهزة الدولة والحزب، وكذلك الطبقة المتوسطة الحضرية الكبيرة، التي تشمل القطاعات الأكثر كفاءة من أجراء وموظفين مدنيين وأعضاء في الجهاز الحكومي. واجهت الطبقة العاملة تحولات عميقة؛ فقد تلقى عمال القطاع العام، الذين يشكلون 20 بالمئة من مجموع السكان الفاعلين، ضربة قوية، نتيجة الموجة الكبيرة للخصخصة، التي قضت على 40 بالمئة من وظائف القطاع العام. ولذلك فقد تآكل هذا القسم من الطبقة العاملة، والذي شكل الضمان الاجتماعي طوال الحقبة الماوية.
بالتوازي، برز نوع جديد من الطبقة العاملة، تألف من المهاجرين من الريف إلى المدينة، والذين تركز عملهم في الصناعات التصديرية الموجودة على الساحل الشرقي، ودلتا نهر «بيرل»، وفي القطاعات منخفضة الأجور، كقطاع البناء، والخدمات في المدن الكبيرة. وقد غذت أزمة الموارد الريفية، وانخفاض القوة الشرائية للفلاحين، الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة، والتي شكلت نسبة الثلث من السكان الحضر. تشكل هذه الطبقة العاملة، التي ضمت حوالي 150 مليون عامل، قوائم الأسماء ذوي الأجور الأكثر انخفاضاً في سوق العمل. ترسم ظروف حياتهم وعملهم الوجه الأكثر بشاعة للرأسمالية الصينية الجديدة: أجور منخفضة، ساعات عمل غير محددة، عدم الالتزام بمعايير السلامة في العمل، وخرق قوانين العمل من العديد من الشركات. يفتقر الاتحاد العمالي الرسمي، وهو الاتحاد الشرعي الوحيد في البلاد، إلى الاستقلال الذاتي في علاقته مع الدولة، وهو خاضع لمصالح الشركات الكبرى ولا يشكل أداة حقيقية للدفاع عن مصالح العمال.
قياساً على هذا المعطى، لا يستغرب أن تكون الصراعات الاجتماعية قد ازدادت منذ نهاية عقد التسعينات. ومع ذلك فإن هذه الشرائح من الطبقة العاملة تبقى منقسمة ومعزولة. وبسبب القمع الحديدي الذي تتعرض له، فإنها لا تستطيع تحقيق أي مكاسب تنظيمية، يضاف إلى ذلك انعدام نقاط الالتقاء بين تعبئة عمال القطاع العام والطبقة العاملة المهاجرة. والشيء ذاته يسري على الأعداد الضخمة من العمال الموجودين في المناطق الريفية والحضرية. إن مساندة أقسام الطبقة العاملة في الصين، لمواجهة النموذج الحالي من تراكم رأس المال، مع الآخذ بعين الاعتبار أهمية البلد والمكانة التي يشغلها في هندسة الرأسمالية العالمية، تعتبر مهمة إستراتيجية ومركزية للحركات المعارضة للعولمة النيوليبرالية. القيام بهذه المهمة لا بد أن يحصل بعيداً عن لعبة الحكومات الغربية، وإداناتها المنافقة لقيام الصين بانتهاك حقوق الإنسان، وقمع شعب التيبت. إن الشكل الذي سيأخذه العالم في المستقبل يتوقف إلى حد بعيد على حاضر ومستقبل الطبقات الشعبية في الصين.
*جوزيف ماريا أنتنتاس:
أستاذ علم الاجتماع في جامعة برشلونة
*إيستر فيفاس:
محررة في مجلة «فيانتو سور» الإسبانية