المحرومون في الاتحاد السوفياتي.. (1)
إن تحليلنا للمشروع السوفييتي ومساره المستقبلي موضوع يهم الجميع، فالعالم أصبح في وضع يضطرنا إما البقاء معاً أو الموت معاً، لذا من الواجب علينا أن نجد لغة خاصة بنا نستطيع بفضلها الحوار مع أفكار الغرب، وهو ما لم يكن موجوداً سابقاً. فحتى الشيوعيون الغربيون كانوا يتحدثون مع الحزب الشيوعي السوفييتي بلغة سوسلوف، وكانوا على ضلال كبير في كل الأمور المتعلقة بالاتحاد السوفييتي، فكانوا يمدحون ما كان ينبغي ألا يمدح، وغفلوا عن تلك القيم التي أوجدناها فعلاً..
إن العالم يقف اليوم أمام خيارين اثنين: إما ظهور لأنماط مختلفة للشيوعية، وإما فاشية توتاليتارية لا تحتمل التنوع. وهما شكلا المجتمع مابعد الصناعي، ولن يحتمل عالمنا سواهما. وإذا تأملنا في المشروع الأول الذي يرفض فكرة «المليار الذهبي»، وجب علينا أن ندرك أسباب انهيار النظام السوفييتي.
إننا نملك الآن خبرة الانهيار، لذلك فمن أجل مناقشة انهيار النظام السوفييتي لابد من ضبط بعض المفاهيم. ويمكننا القيام بذلك على أفضل وجه إذا اتبعنا أفكار غرامشي.
مأساة غرامشي..
يعد أنطونيو غرامشي مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي وباني فكره النظري، وكان نائباً في البرلمان الإيطالي، اعتقله الفاشيون عام 1926 وأودع في السجن. في عام 1934 أطلق سراحه إثر عفو عام، ولكن المرض كان قد تملكه فتوفى عام 1937. عام 1929 سُمح لغرامشي بالكتابة في سجنه، حيث باشر بالعمل في مؤلفه الضخم «دفاتر السجن» الذي نشر لأول مرة في إيطاليا خلال الأعوام /1948 1951/.
وفي عام 1975 صدر هذا المؤلف على شكل طبعة علمية نقدية مؤلفة من أربعة مجلدات مزودة بالشروحات. ومنذ تلك الفترة توالت الإصدارات المتعاقبة بشتى اللغات، عدا الروسية، أما عما صدر من مؤلفات تبحث في ذلك العمل فيقدر عددها بالآلاف. وبالنسبة للإصدارات باللغة الروسية فقد نشر حوالي ربع مؤلف «دفاتر السجن»، ومنذ بداية السبعينات، حيث كانت التحضيرات السرية للبيروسترويكا في أوجها، حظر المتنفذون في الحزب الشيوعي السوفييتي اسم غرامشي (بالرغم من أن هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن إيديولوجيي البيروسترويكا أنفسهم كانوا يدرسون أعمال غرامشي بإصرار)..
إن سبب الحظر على أعمال غرامشي كان حسب زعمهم اختلافه الشديد مع لينين، والحقيقة أن السبب كان يكمن في أن تعاليم غرامشي اتخذت كأساس في الحملة الضخمة للتحكم بوعي مواطني الاتحاد السوفييتي بهدف القيام ب«ثورة» من فوق (في المستويات العليا للسلطة).
لم يكتب غرامشي «مذكرات السجن» من أجل النشر، حيث كان خاضعاً لرقابة شديدة، مما جعل قراءتها أمراً ليس هيناً، ولكن بفضل جهود عدد كبير من المختصين الباحثين في أعمال غرامشي، تم توضيح معاني معظم المواد التي تركها. وبشكل عام يدور الحديث حول مساهمة غرامشي الهامة في إغناء الكثير من المعارف الإنسانية: الفلسفية والسياسية والأنتربولوجية والثقافية والتربوية.
وقد قام غرامشي بمساهمته هذه بعد إدراكه تجربة الإصلاح البروتستانتي والثورتين الفرنسية الروسية 1917 وفهم التجربة الفاشية. وهو بهذه الطريقة يكون قد أنشأ نظرية جديدة للدولة والثورة في المجتمع الحديث، لكن تبين فيما بعد أن غرامشي أثناء عمله من أجل انتصار الشيوعية، وضع العديد من الاكتشافات ذات الأهمية العلمية العامة.
سوف نصاب بالذهول، عندما ندرك أي مدى واسع للظواهر الاجتماعية يتم دراستها اليوم بواسطة نظرية غرامشي، فهي تتسع لأمور مثل مسار أشكال النزاعات القومية، التكتيك الذي تتبعه رئاسة الكنيسة في صراعها مع لاهوت التحرير في نيكاراغوا، تاريخ الرياضة في الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيره على الوعي الجماهيري فيها، خصائص الأدب المعاصر في إفريقيا وفعالية تلك أو غيرها من أنماط الإعلان، فإذا كان علم الاجتماع الغربي البراغماتي قبل 20 30 سنة يعتبر أنه من الضروري استخدام المنهج الماركسي الكلاسيكي أيضاً مع غيره لتحليل كل العمليات الاجتماعية الهامة، فإنه اليوم يرى أنه لابد من تحليل المشكلة باستخدام مفاهيم ومنهج غرامشي.
يمكن التحدث الآن عن مأساة غرامشي.. فكل ما أورده من أفكار وإنذارات وجهها لرفاقه ليتعلموا كيفية تعبئة الوعي السليم للجماهير، وكيفية الارتقاء بوعي الكادحين، درسها واستخدمها الأعداء لأغراض معاكسة تماماً لقمع الوعي السليم وإذلال الإنسان والتحكم الفعال بوعيه لتعزيز هيمنة الأقلية المسيطرة، وذروة «تطبيق مبادئ غرامشي» كانت عبر «البيروسترويكا» في الاتحاد السوفييتي.
فأي تناقض هذا؟! فبينما كان الفيلسوف الشيوعي الفذ غرامشي يستنفذ آخر قواه في سجنه لإبداع نظرية رائعة تفسر المجتمع المدني ووضعها بين يدي رفاقه، كان فلاسفة الغرب وإيديولوجيو البرجوازية البارزون يجمعون كل دفاتر ومذكرات غرامشي ورقة ورقة. ففي كل عام يقدم في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أكثر من عشر أطروحات مكرسة لغرامشي، وتعقد المؤتمرات العلمية بشكل منتظم حول هذا الموضوع. كل هذا والشيوعيون السوفييت يرفضون حتى سماع هذه النظرية!.. إنه لشيء مؤسف حقاً.
إن أحد أهم أجزاء مؤلف غرامشي هو مذهبه في الهيمنة، حيث يعد جزءاً من النظرية العامة للثورة بوصفها ثورة تعمل على انهيار الدولة والانتقال إلى نظام اجتماعي سياسي جديد.
مذهب أنطونيو غرامشي في الهيمنة
يرى غرامشي أن سلطة الطبقة المسيطرة لا تقوم فقط على القوة والعنف، بل تقوم أيضاً على التوافق، فالحيازة على الملكية بوصفها الأساس الاقتصادي للسلطة لا تكفي بمفردها، فهي لا تضمن آلياً قيام سيطرة المالكين، وبالتالي لا توفر لهم إقامة حكم مستقر.
يؤكد غرامشي أن الهيمنة بكونها مقولة أخلاقية سياسية، لا يمكن ألا تكون اقتصادية. وعلى الرغم من ذلك لا يتوقف عند الحتمية الاقتصادية للمادية التاريخية التي تركز على علاقات الملكية. فالاقتصاد هو الهيكل العظمي للمجتمع، والإيديولوجيا هي الطبقة الجلدية التي تكسوه: «لا يمكننا القول إن الجلد بالنسبة لجسم الإنسان ما هو إلا ضرب من الوهم والخيال، في حين أن الهيكل العظمي هو الشيء الواقعي الوحيد بالنسبة للجسم»، فليس بسبب هيكلها العظمي نُعشق المرأة، بالرغم من وضوح مدى تأثير الهيكل العظمي على إضفاء الرشاقة والكياسة على حركتها.
وهكذا تكون الدولة، وبغض النظر عن أي طبقة مهيمنة فيها، تقوم على دعامتين اثنتين: القوة والتوافق. ويطلق غرامشي اسم الهيمنة على الحالة التي يتم عندها بلوغ درجة كافية من التوافق، فالهيمنة عنده ليست بالحالة الجامدة التي تم التوصل إليها، بل هي عملية دقيقة وديناميكية ومستمرة. فالدولة هي عبارة عن هيمنة مكسوة بدرع خارجي من الإكراه، والإكراه ليس سوى درع خارجي، ولكنه يتضمن في جوهره محتوى يفوقه أهمية. والهيمنة لاتفترض وجود توافق عادي وحسب، بل توافق فعال يكوّن لدى المواطنين رغبات متوافقة مع ما تريده الطبقة المسيطرة في المجتمع:
«الدولة هي جملة النشاطات العملية والنظرية التي بواسطتها تتمكن الطبقة المهيمنة من تبرير هيمنتها والمحافظة عليها، محققة في ذلك توافقاً فعالاً لدى المحكومين». من الواضح أن هذا التحديد هو تعقيد كبير لصيغة لينين التي تقول: «الدولة هي آلة لقمع إحدى طبقات المجتمع من قبل طبقة أخرى»، أو حتى يمكن اعتبار هذا التحديد تجاوزاً لتلك الصيغة.
إذا كانت الهيمنة هي قوة الدولة الأساسية وقاعدة سلطة أية طبقة مهيمنة، فإن مسألة استقرار النظام السياسي من ناحية وشروط انهياره من جهة أخرى، ترجع إلى مسألة الكيفية التي يتم وفقها تحقيق تلك الهيمنة أو تقويضها.
حسب غرامشي، إن تحقيق الهيمنة أو نسفها، هو عملية خلوية لاتجري على شكل صدام قوى طبقية، وإنما تجري وفق تغيرات بطيئة ومتدرجة وغير منظورة في الآراء والأمزجة ضمن وعي كل إنسان. فالهيمنة تعتمد على النواة الثقافية للمجتمع التي تتضمن جملة من التصورات عن العالم والإشارات والكثير من الرموز والصور والتقليد والأوامر المسبقة والمعارف والخبرات المتوارثة منذ قرون. ما دامت هذه النواة مستقرة، فإن المجتمع يبقى مالكاً «إرادة جماعية ثابتة» باتجاه المحافظة على النظام القائم.
أما نسف هذه النواة الثقافية وتقويض تلك الإرادة الجماعية فما هو إلا شرط للثورة.
برز في النظام السوفييتي ما سماه غرامشي «الهيمنة التحررية» أو هيمنة المنطق السليم، ولكن لم يكتب لها الاستمرار.
نحن نذكر أي مجهود ضخم بذلته ماكينة الحزب الشيوعي السوفييتي الإيديولوجية خلال البيروسترويكا قبل تمكنها بشكل نهائي من نسف النواة الثقافية للمجتمع السوفييتي في وعي الإنسان السوفييتي العادي، لتحل مكانها هيمنة «أصحاب الخصخصة». كل هذه «الثورة من فوق» (أو حسب مصطلح غرامشي «الثورة السلبية») كانت وفقاً لمذهب الهيمنة والعدوان الخلوي على النواة الثقافية. فمستشار يلتسين «راكيتون» يصرح في المجلة الأكاديمية: «إن تحويل السوق الروسية إلى سوق رأسمالية حديثة كان يتطلب إيجاد حضارة جديدة وتنظيم اجتماعي جديد، وبالتالي تغييرات راديكالية في نواة ثقافتنا».
التأثير على الوعي الاعتيادي
على أي محتوى من محتويات النواة الثقافية ينبغي أن نؤثر من أجل إقامة الهيمنة أو نسفها؟ يجيبنا غرامشي: ليس على نظرية الخصم، بل التأثير على الوعي الاعتيادي، أي على الأفكار اليومية للإنسان العادي. إن ذلك الجزء من الوعي الاعتيادي مفتوح لإدراك أفكار العدالة، فما يهم البرجوازية في سعيها لفرض هيمنتها أو للمحافظة عليها، هو تحييد هذا الوعي السليم أو قمعه عبر إقحام خرافات خيالية فيه.
أثناء الثورة الفرنسية، كانت الهيمنة الفعالة جداً والماضية قدماً باتجاه سلطة البرجوازية متحققة، فسرعان ما تشكل حلف وثيق بين رأس المال والإنتليجنسيا، ارتبط مع حركة الإصلاح الديني الألمانية، التي ولدت تيارات فلسفية قوية. وبشكل عام يعتبر غرامشي أن اتحاد حركة الإصلاح البروتستانتي بالنموذج السياسي للثورة الفرنسية هو الحد الأقصى النظري لمدى فعالية إرساء الهيمنة.
لقد كان غرامشي أحد الذين وضعوا أسس علم اجتماع جديد مطوراً المادية التاريخية، وهو أحد الفلاسفة الأوائل الذين أدركوا الخارطة العلمية الجديدة للعالم ونقلوا روحها الرئيسية إلى علم عن المجتمع.
ولعل أكبر إثبات على صحة نظرية غرامشي هو استراتيجية حزب المؤتمر الوطني الهندي الناجحة في استخدام اللاعنف لتحرير الهند من التبعية الاستعمارية، فعبر الكثير من «الأعمال والأقوال الصغيرة» استطاع الحزب التوصل لهيمنة ثقافية متينة في صفوف الجماهير..
يمكن أيضاً أن نورد عملية أخرى مخططة بذكاء وهي انتقال إسبانيا السلمي بعد موت فرانكو من مجتمع توليتاري مغلق إلى اقتصاد السوق الليبرالي، ومن نظام فيدرالي إلى نمط غربي من الديمقراطية. ثم حلت أزمة هيمنة النخبة الموالية لفرانكو عبر سلسلة من المواثيق التي عقدت مع المعارضة اليسارية الطامحة للهيمنة. بنتيجة هذه المواثيق وحلول الوسط تم قبول اليساريين ضمن النخبة، أما الفرانكويون فقد غيروا لونهم وعباراتهم المقيتة وأصبحوا «ديمقراطيين». وتمكن اليساريون من «إقناع» الجماهير بالصبر والتخلي عن مطالبهم الاجتماعية، الشيء الذي لم يكن بمقدور اليمين تحقيقه.
تنميط المجتمع.. وتجزئته
إن الشرط الأهم للهيمنة في المجتمع المدني حسب غرامشي هو تنميط المجتمع وتجزئته إلى قطاعات عبر عملية (تذرية) على الصعيد الاجتماعي وتعميق اغتراب الأفراد أحدهما عن الآخر، ولكن بالوقت نفسه، هناك ضرورة لربط قطاعات المجتمع بعلاقات لاتقود إلى التماسك العضوي في المجتمع، ولاتشكل خطراً على نظرية الهيمنة.
وقد بينت الدراسات وفق منهج غرامشي في الهيمنة، بأن الرياضة في الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت الوسيلة الفعالة من أجل الهيمنة (الخلوية) على المجتمع الأمريكي. فقد خلقت الرياضة رموزاً ونماذج لا تقود إلى وحدة اجتماعية متماسكة، لكنها ربطت بين أكثر قطاعات المجتمع تبايناً، من الشرائح الدنيا للزنوج وحتى النخبة البرجوازية. وقد عملت الأنتلجنسيا الليبرالية ضمن منطق نظرية غرامشي حول الهيمنة في نسف هيمنة القوى الاشتراكية في دول أوربا الشرقية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية جرى نشر أطروحات مثيرة استحوذت على وعي القراء العاديين حول دور المسرح في انهيار النواة الثقافية لدول أوروبا الشرقية.
لقد تمت دراسة أعمال مسرح هاينر ميولر الذائع الصيت في ألمانيا الديمقراطية السابقة بهدف (نسف التاريخ من القاعدة)، حيث تبين أن هذا المسرح هو مثال نموذجي عن الظاهرة التي سميت ب(المسرح المعادي للمؤسسات)، أي المسرح الذي يعمل على تقويض المؤسسات الاجتماعية، وبحسب الاستنتاجات التي تم التوصل إليها من تلك الدراسات الأمريكية كان المخرجون يتعمدون البحث عن الصدوع في (صخرة الهيمنة)، وبذلوا كل جهد لتوسيع التشقق على المستوى البعيد وصولاً إلى نهاية التاريخ والذي يعني بالنسبة لهم الوصول إلى انهيار ذلك النظام السوفييتي. ولقد سبق لنا أن شاهدنا هذا النوع من المسارح والمخرجين في موسكو أيضاً. وخلاصة الموضوع أن انهيار النظام السوفييتي في أحد وجوهه، كان فقداناً للهيمنة الثقافية على جزء واسع من فئات الشعب، وبذلك فقدت السلطة السوفييتية التوافق الفعال لمواطنيها في استمرار سلطتها، ولم يكن بالإمكان إنقاذ الموقف بواسطة استخدام القوة لأن الضباط (أنتلجنسيا الجيش) كانوا أول من تحرر من الهيمنة الثقافية للمشروع السوفيتي.
النظام السوفييتي ومشكلة الجوع الروحي
لماذا انهارت شيوعية بريجنيف؟ فلم يكن هناك أي اضطهاد أو جوع أو ظلم مجحف، بل على العكس من ذلك كانت الحياة تتحسن باطراد، فالناس كانوا يحصلون على شقق جديدة، ويسافرون للجنوب للاستجمام، ويفكرون باقتناء السيارة ومنهم من كان يملكها فعلاً، لماذا إذاً صدق الناس غورباتشوف بحماسة وشرعوا بهدم بنيتهم؟ لماذا يقوم مهندس شاب بترك مكتب التصميم الذي يعمل فيه ليبيع السجائر عند مدخل المترو كمتشرد جاهل؟.
لماذا تخلى الناس عن ضمان الحصول على السكن المجاني؟ إنها ظاهرة فريدة لا مثيل لها في التاريخ، لذا يجب علينا فهمها. فمنذ بداية إقبالنا على معالجة المشكلة تبين أن عملية التحليل ستكون معقدة وتحتاج لما هو أكثر عمقاً من الفهم المبسط للمادية التاريخية ومفاهيمها من نمط (المقدمات الموضوعية) و (المصالح الاجتماعية)، ومنذ عشر سنوات ونحن نشهد كيف تعمل تلك الحشود باتجاه معاكس لمصلحتها، حتى أن كثيراً ما يمضي بعضهم إلى الموت قدماً متذرعاً بأسباب هي أقرب إلى اللامعقول.
لقد قادت النزاعات الظاهرة والمخفية إلى انهيار حضارة كاملة في روسيا الاتحاد السوفييتي كانت تتصف بالتنظيم الذاتي الشديد. إن المادية التاريخية بمستوى تطورها السابق، لم تملك اللغة الكافية لشرح هذه المنظومات، ولكن يجب البدء بذلك.
من الواجب أن نتعمق في نطاق الأمور غير الاعتيادية، ولنبدأ بالأسباب الجلية، فالعيوب الرئيسية في أي مشروع اجتماعي تكمن في عدم تلبيته لحاجات أساسية لفئات واسعة من المجتمع.
إذا كان عدد المحرومين كبيراً ويتمتعون بقوة، عندها سيطرأ تعديل على المشروع بتأثير الضغط الممارس من قبلهم، وإلا فالمشروع سيصل إلى نقطة حرجة، وسيكون مصيره الفشل.
لنبحث الآن من كان محروماً في الاتحاد السوفييتي، ولن نتسرع بتقييم «الحاجات» قبل تصنيفها أكانت حاجات منطقية أو هوائية أو شائنة. لنتذكر الآن الفكرة العادية القائلة إن الإنسان يعيش في عالمين: عالم الطبيعة وعالم الثقافة، عالم الأشياء، وعالم (الإشارات أو العلامات). فالأشياء التي أوجدتها الطبيعة أو التي أوجدها الإنسان نفسه هي الأساس المادي لعالمنا، أما عالم الإشارات الذي يتميز بكونه أكثر تنوعاً، فإنه يرتبط بالأشياء عبر علاقات معقدة، وأحياناً كثيرة غير محسوسة وغير مدركة.
لقد نشأ المشروع السوفييتي قبل كل شيء من وضع التأمل في حالة روسيا الفلاحية، ومن هنا انبثقت التصورات المختلفة حول الضروري للإنسان والمرغوب به، وغير الضروري، وخلال الثورة كان المشروع السوفييتي صارماً ومحدداً، فتمت تصفية الخصوم وأصحاب الحاجات (غير الضرورية)، ومنهم من اضطر للهجرة، ومنهم من أذعن تحت وطأة الواقع، فسادت في المجتمع لفترة معينة (وحدة في الاحتياجات). ومع رسوخ السلم الأهلي وقيام المدينة بلعب دور متزايد فيها، أخذت (مجموعة الحاجات الرئيسية) تشكل عائقاً وضاغطاً أكثر فأكثر على فئات ضاغطة من المجتمع. ومن هنا بدأ الغرب يصبح بالنسبة لأولئك شيئاً مثالياً وأرضاً للأحلام تحترم وتقدر الحاجات. أما عن تلك الحاجات العظيمة التي كان يوفرها النظام السوفييتي، فقد تراجع التفكير فيها.. (فعندما يضغط الحذاء على القدم ينقطع تفكير الإنسان بالدفء الذي توفره السترة التي يلبسها).