«عنزة ولو طارت»!
أثناء الحرب الباردة كانت بعض القوى السياسية في المنطقة وبلادنا تخفي انحيازها لموقف الولايات المتحدة الأمريكية بإجراء «المقارنة» بين الموقف السوفييتي وموقف واشنطن من الصراع العربي- الصهيوني، لتخرج تلك القوى باستنتاج أعرج جوهره أن «كلا الموقفين لا يخدم القضية الفلسطينية»، وأن الولايات المتحدة «تقع تحت تأثير اللوبي الصهيوني»، لذلك وبرأي هؤلاء- لابد من مساعدتها لتتغلب على التعنت الصهيوني سواء داخل الولايات المتحدة أو داخل «إسرائيل الصهيونية» في فلسطين المحتلة.
* من واجبنا هنا التذكير بأن أول خطوة قامت بها واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي هي قيادة حملة عالمية- بالترغيب والترهيب- لإلغاء القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم /3379/ في العام 1975 والذي اعتبر الصهيونية العالمية حركة عنصرية وشكلاً من أشكال التمييز العنصري، وقد قدمت الرجعية العربية «مساعدةً» كبرى للولايات المتحدة في الوصول إلى إلغاء القرار مقابل وعود شفهية أمريكية بإيجاد «حل» للصراع العربي- الصهيوني و«الضغط» على الحكومة الإسرائيلية من أجل الانسحاب من الأراضي العربية «عبر المفاوضات»!
* بعد اكتمال عقد «مؤتمر مدريد» وضمن الصيغة الملغومة «الأرض مقابل السلام» باشرت الولايات المتحدة بترتيب المفاوضات السرية بين «القيادة الرسمية الفلسطينية والكيان الصهيوني في أوسلو»، ونعرف جميعاً ما تلا ذلك من تقديم التنازلات تلو الأخرى على حساب الحقوق الوطنية الثابتة للشعب العربي الفلسطيني، ولم يكن اجتياح الأراضي الفلسطينية الخاضعة «للحكم الذاتي» عام 2002 موجهاً ضد السلطة في رام الله بقدر ما كان موجهاً ضد المقاومة الفلسطينية التي شبت عن الطوق وأدركت مخاطر مسار أوسلو على القضية الفلسطينية برمتها. ولا بأس من التذكير بأن الجنرال الأمريكي دايتون هو من يشرف- ومنذ أربع سنوات- على التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وأجهزة السلطة في رام الله لإخماد المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع!
* بعد كل الذي حدث من احتلال العراق، إلى اغتيال رفيق الحريري في لبنان، وحربي تموز وغزة والتهويد الزاحف للأراضي الفلسطينية، والالتزامات الأمريكية الرسمية بالحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، والتهديدات الأمريكية- الإسرائيلية المبطنة والصريحة ضد سورية، يحاول البعض النفخ في «قربة أوباما المثقوبة» ويجد الأسباب التخفيفية لتراجع إدارة أوباما عن الوعود المعسولة بإيجاد «حل» للقضية الفلسطينية، ولعل الأكثر غرابةً أن تأتي تلك الأسباب التخفيفية من جهات وأقلام «يسارية» تدعي أن «تل أبيب شرعت باستنفار كل طاقاتها وقوى الضغط التي تملكها لمجابهة أي تغيير جدي في مواقف هذه الإدارة (أوباما) واستغلت في سبيل ذلك صعوبات الأزمة الاقتصادية العالمية والتحديات الناجمة عن الحرب في أفغانستان والوضع في العراق.. ويبدو أن شبكة الضغوط التي أطلقتها حكومة نتنياهو قد أعطت النتائج المطلوبة بسرعة غير متوقعة»!!
* يبدو لنا أن الذي توقع عكس ما آلت إليه الأمور من وضوح في العلاقة بين «الثكنة» الإسرائيلية والمركز الإمبريالي- العدواني في واشنطن هو إما واهم وينقصه الحد الأدنى من المعرفة ويصر على طريقة «عنزة ولو طارت» بأن الكيان الصهيوني هو من يقود الولايات المتحدة وليس العكس، وإما غير مستعد ومهزوم وغير قادر على تحمل تبعات قول الحقيقة بأن الولايات المتحدة عدوة الشعوب على طول الخط والكيان الصهيوني أكبر أدواتها لتحقيق مشروعاتها الاستعمارية قديمها وجديدها في المنطقة وفي العالم.
* لقد استخدمت الولايات المتحدة الفيتو 82 مرة في مجلس الأمن منها 43 مرة ضد مشروعات قرارات تدين الكيان الصهيوني وتطالب بفرض عقوبات عليه من جراء الجرائم الموصوفة التي يقترفها ضد السكان العرب في الأراضي المحتلة، كما قدمت الولايات المتحدة للكيان الصهيوني في الخمسين سنة الماضية 180 مليار دولار كمساعدات عسكرية واقتصادية ناهيك عن الشراكة في الصناعات العسكرية الدقيقة وتكنولوجيا الفضاء!
* من هنا فإن أي حديث أو تفسير لموقف أوباما خلال المؤتمر النووي في واشنطن على أنه «مؤشر استسلام أمام تعنت الحكومة الإسرائيلية العنصرية، وهو انقلاب في الموقف الأمريكي غير مبرر وغير مفهوم» لا يختلف في شيء عما تسوقه دول الاعتلال العربي التي تتهم المقاومة بـ«المغامرة» وتجد نفسها مجبرةً على خلق الذرائع والأعذار لأي موقف عدائي أمريكي ضد شعوب هذا الشرق العظيم بحجة تمرد الكيان الصهيوني على ولي نعمته واشنطن. وهكذا من المعيب أن نفاضل بين سندان الإمبريالية الأمريكية ومطرقة الاحتلال الإسرائيلي، في حين المطلوب الإقلاع نهائياً عن الأوهام القائلة بإمكانية تحييد الولايات المتحدة عن حليفتها «إسرائيل الصهيونية»، ومن يستمر في هذا الجرم لن يحصد إلاّ الخذلان والسراب.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.