الهدر والتقشف
مأساة اليونان ليست الوحيدة، فبلدان أخرى تقف في الدور. الإدارات المتعاقبة هدرت المال العام، وهدرت أيضاً ذمة البلد، وما يمكن أن تحصل عليه من قروض، ونقلت أغلب ذلك إلى الجيوب، وربما أصحاب تلك الجيوب نقلوا ما حصلوا عليه إلى البنوك الدولية فجحا، الذي أعطى القروض، عاد فأخذها «جحا جاب، وجحا أخذ»، والآن على الشعب اليوناني أن يسدد الفواتير. التقشف مطلوب من الشعب، لا من أصحاب الجيوب.
الصورة هي عامة وشاملة، ففي كل بلد في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية تمتلئ جيوب الفئات العليا في المجتمع، وتدفع الشعوب الفواتير.
ولكن ليس في كل بلد تهب نقابات العمال فيه، وتطلق المظاهرات، وتنادي بالإضراب العام، وتضحي، احتجاجاً على دفع فواتير، ليست هي مسؤولة عنها.
لو فرضنا حصلت الإدارة اليونانية على الأموال الطائلة الموعودة، فهل ستحل المشكلة؟ الأموال تكون مفيدة، إذا ما استثمرت، فهل ثمة فرصة لاستثمار تلك الأموال؟ ربما هناك فرص، ولكن الأجهزة ذات العلاقة، لو كانت قادرة على الاستثمار، لاستثمرت القروض السابقة. عدا ذلك، فإن الإشراف الدولي على «التقشف»، وعلى مناحي صرف تلك القروض، يجعل فرص الاستثمار معدومة، ويقتصر توظيف أغلبها على الجيوب.
والشعب اليوناني غالباً لن يربح معركته ضد التقشف، فمع أن الحكومة «اشتراكية»، ستكون أقسى على الشعب من غيرها. إن الديمقراطية «ذات الأنياب» مهمتها أن تقتل الشعب، أن تقتله بالفقر والجوع، وأن تقتله بقوات محاربة الشغب، التي لا ترحم، تستعمل الغاز وخراطيم المياه والهراوات، وعند اللزوم الرصاص الحي.
في بلدان أخرى ترتكب مجازر وتندلع حروب تدوم أشهراً أو سنوات، وتقتل الإدارة شعبها، كما لا يفعل عدو. ففي السودان لا تهدأ حرب أهلية حتى تشتعل من جديد، وأيضاً في اليمن، وفي باكستان، والدماء في بانكوك تجري أنهاراً، دون أن تهز شعرة من الإدارة.
ربما الفتن والحروب الجارية في غير اليونان هي بأغلبها عبثية، قبلية أو طائفية، ورغم أنها كذلك، فإن خلفيتها حيوية، لأن شيوخ القبائل والطوائف يستفيدون من النقمة الناجمة عن التمييز القبلي أو الطائفي، وعن الفقر والجوع، من أجل تجنيد الناس للحرب في سبيل مصالحهم. وحتى في البلدان التي تبدو هادئة ولا تجري فيها صراعات قبلية وطائفية، تمتلئ السجون بالناس، طبعاً لا لأسباب إنسانية؟
الصراع في اليونان ضد التقشف ليس عبثياً، إنه حيوي، لأنه من أجل حياة الشعب، من أجل مستوياته المعيشية واستمراريته.
ولكن النضال النقابي غير كاف، فحتى لو انتصر، وأجبر الإدارة على إلغاء الإجراءات التقشفية, فلن يحل مشكلة الفقر والبطالة والجوع.
إن المشكلة هي في النظام الذي أدى إليها، النظام الذي لا يحمل لا مسؤولية بلده وطنياً، ولا مسؤولية شعبه معيشياً، والكلام هنا ليس عن النظام اليوناني بالذات. النظام هو دولي وليس يونانياً فقط. أينما توجه المرء، يجد نفس الإشكالية، نظاماً يستأثر بالخيرات المتاحة، وشعباً يرزح تحت نير الاستعباد القاسي أو المخفف. تحت نير يجعله يحتاج الخدمات والمواد ذات الضرورة الأولية، أو يجعله يزحف على الأرض، كما في الأرياف المنبوذة المهملة العديدة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بل وفي بلدان الشمال، حيث يزداد عدد المشردين homeless.
العالم بحاجة إلى تغيير النظام القائم، النظام العدواني، اللاإنساني، الذي يرتكب الجرائم تلو الجرائم، ويعيش على دم الشعوب، إلى نظام يمثل مصالح الشعوب في الحرية، وفي التمتع بخيرات العمل الإنساني، وبخيرات الطبيعة، ويصنع بالتعاون مع الشعوب مستقبل الحياة على الكوكب.
النضال النقابي والنضال الحزبي يحتاج أن يضع هدفه تغيير النظام الدولي الذي يتسبب بالمآسي الإنسانية على اختلافها. ومن دون ذلك يبقى النضال النقابي يدور في حلقة مفرغة، وقد يزيد من قوة القوى الرجعية، بدلاً من أن يضعفها، وهذا ما يحصل.