«رياح السموم» تعصف بكيان العدو
لم تكن العملية الإجرامية الوحشية التي قامت بها قوات العدو الصهيوني فجر يوم الاثنين 31 مايو/أيار، خارج المألوف في السياسة والسلوك الذي انطلقت منه الحركة الصهيونية وهي تغزو أرض فلسطين العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
وإذا كانت ذاكرة البعض مليئة بالثقوب، فإن السجل الأسود لجرائم المستعمرين اليهود، الممتدة على أكثر من قرن من الزمن، سواء على يد الهاغاناه وشتيرن ومثيلاتهما، أو في ممارسة ارهاب «الدولة» الذي يقوم به الكيان الصهيوني الاستعماري منذ 63 عاماً، يشهد أنه لاتوجد مفاجآت بالعمليات العدوانية العسكرية، أو الاغتيالات والتصفيات التي يعتمد عليها «الموساد» باستهدافه المناضلين في أكثر من مكان. لكن ماحصل فجر ذلك اليوم الممهور بدماء أبطال الحرية، الذين يحملون قضية فلسطين في قلوبهم وضمائرهم، عكس وبدرجة صارخة، درجة الحقد العنصري/ الاستعلائي، وكشف حقيقة ضعف هذا التجمع الاستعماري، رغم وحشية وسادية وحدات القتل النخبوية، وزعيق ونباح «الزعران» التي تردد صداها في بعض الفضائيات التي نقلت تفاصيل الجريمة. وقد تجلى هذا الحقد في التمهيد الإعلامي للعملية. فوزير البيئة في حكومة القتل الصهيونية، يصف المشاركين بقافلة أسطول الحرية بـ«الحيوانات». كما أن نائب وزير الحرب «فيلنائي» وصف منظمي قافلة السفن بأنهم (أتباع حماس وحزب الله)، في لعبة مكشوفة وسخيفة، تلعب على وتر «الاسلامفوبيا»، لربط القوى المشرفة على تسيير الحملة، بقوى دينية تتم شيطنتها ولصق تهم الإرهاب فيها، مما يعني الاستعداد لمواجهتها، وهذا ماعبّر عنه المتحدث باسم جيش العدو «أدرعي» يوم 30 /5 (إن البحرية «الإسرائيلية» ستستخدم القوة المفرطة وستمنع سفن أسطول الحرية من الوصول إلى قطاع غزة).
حملت سفن أسطول الحرية المساعدات الغذائية والطبية، وبعض مقومات الحياة لشعبنا في قطاع غزة المحاصر. لم يكن العالم يعرف أن عربات المعاقين، وكميات الأسمنت والأخشاب ولعب الأطفال، والدفاتر والأقلام، هي أسلحة مدمرة، حرص على نقلها 600 متطوع من النخب السياسية والمجتمعية والإعلامية من اكثر من أربعين دولة، منهم عشرات النواب من عدة دول أوروبية وعربية، مع تواجد ملحوظ للمشاركة التركية «160 شخصية اجتماعية بارزة من 81 مدينة وبلدة»، والأهم أن هؤلاء المناضلين والمناضلات نقلوا الدعم الأممي، السياسي والإنساني للشعب الفلسطيني، المحكوم بالموت البطيء داخل غزة البطلة.
جاءت عملية «رياح السماء» كما سماها قادة العدو، كترجمة دقيقة للقرارات التي صدرت عن اجتماع الحكومة المصغرة قبل أسبوع. لكن رياح السموم الفاشية التي استطاعت كبح اندفاع سفن القافلة، وحرف خط توجهها، من خلال قوارب الموت الصهيونية، والطائرات السمتية، والستمائة مجرم مدجج بالسلاح- لكل متضامن مدني أعزل، جندي مشبع بالكراهية والعنصرية، استعملوا الرصاص، وقنابل الغاز، وعصي الصعق الكهربائي، لقتل وجرح واعتقال المتطوعين البواسل، الذين واجهوا بإرادتهم وبما توفر لهم، الغزاة، بالاشتباك معهم، فأوقعوا عشرة جنود وأحد الضباط جرحى. لقد طرقت دماء أبطال الحرية كل أبواب العالم، فانفتحت القلوب والعقول، لتدخل فلسطين ومعاناة شعبها، في جدول الأعمال اليومي لملايين العائلات.
لقد كشفت نتائج العملية مجدداً، الوجه البشع للسياسة الأمريكية، لأنها أزالت كل مساحيق التجميل التي يحاول البعض وضعها لإخفاء القباحة المتأصلة في سلوك هذه الإدارة. إن ماصدر من تعليقات رسمية، ومانتج عن الدور الأمريكي في جلسة مجلس الأمن «الأمريكي»!، يفضح التواطؤ بين الحكومتين. لأن عملية عدوانية بهذا الحجم، تقرر القيام بها حكومة الكيان الصهيوني، وترتقي إلى درجة جرائم الحرب الموصوفة «سطو وقتل واختطاف» في المياه الدولية، ماكان لها أن تتم دون ضوء أخضر أمريكي. ولهذا فإن تعزيز الصلابة في الموقف السياسي، ونقله لمواقع هجومية في ساحات العمل الدولي والإقليمي، هو الرد على سياسات الضغط الأمريكية، وليس التراجع والبحث عن عبارات ومخارج، تتوافق مع سياسة وسطية يستفيد منها معسكر الأعداء. ولهذا فـ«الصمت لم يعد ممكناً»– كما يقول الإعلامي الكبير «حمدي قنديل».
لقد سطرت قافلة أسطول الحرية، بدماء شهدائها وجرحاها، وصمود أسراها، مسارات العمل الحقيقي، وعرّت عجز أنظمة الإعتلال العربية، وتبعية سلطة رام الله المحتلة. وقد تعاملت بعض الأنظمة مع الجريمة الجديدة بأسلوب مباشر، بعيداً عن الالتباس والتأويل، لدرجة يصعب علي أي كاتب وإعلامي ان يجد الكلمات المناسبة لوصفه! الناطق بلسان الخارجية المصرية أجاب على سؤال وجهه له مذيع في إذاعة «بي بي سي» (لماذا لاتستدعون السفير المصري في تل أبيب) فيرد المفوه السياسي/ الإعلامي قائلاً (لو أننا استدعيناه في كل مرة تقترف فيها «إسرائيل» عملا من هذا النوع ، لما مكث يوماً في مكتبه). أما صندوق العجب المسمى «فضائية فلسطين» فقد التزم الصمت، وتجاهل الجريمة الصهيونية في «شرق المتوسط» لساعات طويلة، بعكس بعض الفضائيات العربية الخاصة «الجزيرة»، والحكومية «الفضائية السورية»، اللتين تعاملتا مع الحدث بمهنية عالية، وبموقف سياسي متميز.
إن نتائج العملية الدموية الفاشية تقتضي من كل أحرار العالم، تعزيز نضالهم من أجل رفع الحصار عن غزة، ودعم صمود الشعب الفلسطيني على كامل ترابه الوطني. فالقوى العربية المناضلة في الجليل والنقب والمدن المختلطة تتعرض لأشرس حملة عنصرية، تستهدف رموزها وقادتها، كما أن سياسة تكميم الأفواه، في أراضي سلطة رام الله المحتلة، وتخريب البنية المجتمعية وإفسادها، يتطلب من كل القوى الحرة في عالمنا، تقديم المزيد من الدعم لنضال الشعب الفلسطيني في كل مناطق تواجده.
إن معركة كسر الحصار على غزة قد دخلت مرحلة جديدة. فدماء الشهداء يجب أن لاتضيع في مياه المتوسط، بل يجب أن تتحول إلى إرادة دائمة تعمل على إنهاء الحصار، ووقف بناء الجدار الفولاذي، والفتح الدائم لكل المعابر، لتسهيل حركة تنقل الأفراد والبضائع. وتدفع بالتحرك الشعبي العربي، والفلسطيني في مقدمته، من اجل التمسك بخيار المقاومة، والعمل على اسقاط كل الأدوات والكيانات، التي ماتزال ترى في التعامل والتفاوض مع كيان القتل والإجرام الصهيوني، ضرورة سياسة وديبلوماسية.
لم تغرق سفينة «مرمرة» في البحر، ولم تغص السفينة الايرلندية التي حملت اسم شهيدة فلسطين وأحرار العالم «راشيل كوري» في أعماق اليم. بل إن هذا الكيان المصطنع هو الذي يتهاوى. ففي صحيفة «هآرتس» الصهيونية الصادرة يوم 1 حزيران/ يونيو مقال عنونه كاتبه بـ«اسرائيل تغرق في البحر». إنه توصيف دقيق لحقيقة تسطع في كل يوم.