الولايات المتحدة بحاجة إلى بضعة شيوعيين متمكنين
هدفت ملاحقة الشيوعيين في الولايات المتحدة إلى إسكات جميع الاشتراكيين والفوضويين وأنصار اللاعنف، وكل من تحدى مفاسد الرأسمالية. ولم تجلب تلك الحملات «المناهضة للحمر» إلا الكوارث على صحة البلاد السياسية.
تحدث الشيوعيون بلغة الطبقات، مدركين أن العدو هو «وول ستريت» والشركات العملاقة، من مثيلات «بريتيش بتروليوم». وطرحوا رؤية اجتماعية متحررة عميقة، أتاحت حتى لليسار غير الشيوعي فرصة امتلاك معجم مفردات كاشف للدوافع التدميرية الكامنة في النظام الرأسمالي. لكن حالما استؤصل الحزب الشيوعي الأمريكي، كقوة اجتماعية وسياسية، والحركات الراديكالية الأخرى، وحالما أقسمت الطبقة الليبرالية يمين الولاء للحكومة وتعاونت معها في حملة مطاردة «البعبع الشيوعي»، سُلبت منا مهارتنا وقدرتنا على تبرير منطق نضالنا. فغدونا خائفين، جبناء، غير فعالين. فقدنا صوتنا وأمسينا جزءاً من البنية «الشركاتية» التي يفترض بنا تفكيكها.
قصور فهم بنيوي
في عصر إفلاس الرأسمالية، يعود الأمل مع عودة لغة الصراع الطبقي. ولا يعني هذا الاتفاق مع كارل ماركس حول تأييده للعنف(!!)، إنما علينا التحدث بمفردات معجم ماركس اللغوي. كما يتعين علينا إدراك أن الشركات العملاقة لا تهتم بالمصالح العامة، كما أدركها ماركس. فهي تستغل، تدنس، تفقر، تقمع، تقتل، وتكذب كي تجني الأموال. ترمي العائلات الفقيرة في الشارع، تترك غير المؤمّن عليهم يموتون، تشن حروباً باطلة من أجل تحقيق الأرباح، تسمم البيئة وتلوثها، تمزق برامج المساعدة الاجتماعية، تدمر التعليم العام، تطرح اقتصاد العالم مع الفضلات، تنهب الخزينة الأمريكية، وتحطم كافة الحركات الاجتماعية التي تنشد العدالة للنساء والرجال الشغيلة. إنها تعبد المال والسلطة فقط.
وكما علم ماركس، الرأسمالية المنفلتة، المتحررة من القيود، قوة عاتية تستهلك من حيوات الناس أكثر فأكثر، حتى تصل إلى استهلاك ذاتها. وما كابوس خليج المكسيك إلا صورة عن دولة الشركات. وهو ذات كابوس الجيوب ما بعد الصناعية، من بلدات طواحين «نيو إنغلاند» العتيقة إلى مصانع الفولاذ المهجورة في أوهايو. مثلما هو كابوس نحيب العراقيين والباكستانيين والأفغان، يرثون قتلاهم كل يوم، على الهواء مباشرة.
في غابر الزمان اعتُبِرت الرأسمالية نظاماً جديراً بالمحاربة، أما اليوم فلا يقف في وجهها أحد. لذلك ما عدنا نعرف ماذا نفعل أو نقول حيال سرقة «وول ستريت» لمليارات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب، وتحوّل خليج المكسيك إلى مستنقع مسموم. نشجب تجاوزات الرأسمالية وندينها دون أن نطالب بتفكيك دولة الشركات. بينما يتمثل ولاء طبقة الليبراليين المضلـِّل برفض المجموعات البيئية مؤخراً تحميل بيت أوباما الأبيض مسؤولية كارثة خليج المكسيك الإيكولوجية! هكذا يطأطئ الليبراليون رؤوسهم أمام الحزب الديموقراطي الذي يتجاهلهم ويراضي الشركات العملاقة. الإذعان الطوعي للديمقراطيين ليس إلا نتيجة خوف وجبن الليبراليين، وقصور فهمهم الطفولي لآليات السلطة. فالانقسام القائم ليس بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، بل بين دولة الشركات العملاقة والمواطنين. بين الرأسماليين من جهة والعمال من جهة. ورغم كل إخفاقات الشيوعيين، فهموه.
«الخولي»
النقابات، وكافة المنظمات التي تعمدت سابقاً بمبادئ النضال الطبقي، وعملت مع كل أولئك الطامحين لتحصيل حقوق الطبقة العاملة الاجتماعية والسياسية، كلها تحولت إلى شريك مخدّم للطبقة الرأسمالية. ولم تعد أكثر من أدوات للمقايضة. فتخلت عن المطالب التي كانت ترفعها نقابات القرن العشرين، وضمنت للطبقة العاملة حق الإجازة الأسبوعية، وحق الإضراب والتأمين الاجتماعي، وتحديد يوم العمل بثماني ساعات. وغدت الجامعات، خاصة في حقلي العلوم السياسية والاقتصادية، تردد ببغائياً الإيديولوجيا المخزية للرأسمالية المنفلتة. أما أشكال التعبير الفني، إلى جانب العبادات الدينية، فقد غرقت في ذاتية نرجسية. علاوة على أن الصحافة والحزب الديموقراطي أصبحا خادمين للشركات العملاقة.
لقد أدى انتزاع التيارات الثورية من قلب الحركة العمالية، والحزب الديموقراطي، والحركة الفنية، والكنيسة، والجامعات، إلى إزالة الوزن الهام المكافئ والمناوئ لدولة الشركات. إضافة إلى أن عملية استئصال أولئك الثوريين تركتنا عاجزين عن فهم ما يجري حولنا.
وأدى الخوف من الشيوعية، كالخوف من «الإرهاب الإسلامي»، إلى تعليق دائم للحريات المدنية، بما فيها حرية التعبير، وحق تشكيل الأحزاب والتنظيمات، والقيم التي تزعم الليبرالية أنها حاميتها. وكما سمح نشرُ الخوف للطبقة الرأسمالية، من خلال قانون «تافت– هارتلي» في عام 1948، بضرب الطبقة العاملة الضربة التشريعية الأكثر تدميراً حتى لحظة إبرام اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (نافتا)، كان الخوف كامناً خلف سن «المرسوم الوطني» غير المسبوق، الذي سمح بإقامة مستعمرات تأديب خارج الحدود، حيث نمارس التعذيب، وبإدامة الحروب في الشرق الأوسط. والخوف هو الأداة التي استخدمتها «وول ستريت» لجزّ صوفنا.إذا لم نضع حداً لخوفنا، ونحدد عدونا، فسوف نغذّ السير نحو إقامة دولة «نيو إقطاعية».
من أجل ضرب العمال وتثبيت سيطرتهم، لجأ بارونات المطاط في القرن التاسع عشر إلى استخدام الزعران والسفاحين المأجورين. أما الشركات المعاصرة، فتوظف علم العلاقات العامة، وتستخدم الممثلين والفنانين والكتّاب ومخرجي الأفلام والباحثين للتلاعب بالرأي العام وقولبته. كما تستخدم خريجي المعاهد والكليات والنخبة الليبرالية لإشباع الثقافة بالأكاذيب.
جذرية العودة
كان على الطبقة الليبرالية أن تتصدى لعملية إجهاض المنظمات الثورية بما فيها الحزب الشيوعي. ولكنها بدلاً عن ذلك، انساقت لإغواء عقائد الشركات العملاقة، وتحولت إلى طبقة وكيلة تخدم كبرى الشركات. ونظراً إلى إفقار حياتنا ثقافياً، اختزلت الوحدة الوطنية بثقافة الحشد والماركات والاستهلاك، والتوحيد المرَضيّ للآراء التي ينشرها خاطبو ود الشركات العملاقة. وبتنا نردد ونفكر بالشعارات و«المقولات الجاهزة» الشركاتية التي تلقيناها من خلال طبقة الليبراليين.
يقول «إيرفينغ هوي» في مقاله المعنون «عصر التماثل»: «فقدت بريقها تدريجياً فكرة الحياة المكرسة لقيم لا يمكن أن تحققها الحضارة التسويقية. وهذا ما يؤسس لهزيمتنا، أكثر مما يفعله التخلي عن برنامج بعينه». إن الإيمان بأن الرأسمالية هي محرك تقدم الإنسانية الذي لا يمسّ تم «ترسيخه من خلال كل وسائط التواصل: البروباغندا الرسمية، الدعايات المؤسساتية، وكتابات الباحثين الذين كانوا حتى السنوات القليلة الماضية من أشد خصومها». ويضيف إيرفينغ:
«إن الناس العاجزين حقاً هم أولئك المثقفون، الواقعيون الجدد، الذين يقيدون أنفسهم بكراسي السلطة، متنازلين عن حريتهم في التعبير عن الرأي، دون أن يحظوا بأدنى دور كشخصيات سياسية»... «العقود القليلة الماضية كانت حاسمة في تاريخ المثقفين الأمريكيين، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقة بين «الثروة» و«الفكر»، فكلما ازداد استيعابهم ضمن المؤسسات الاجتماعية الرسمية، لا يفقدون تمردهم التقليدي فقط، بل إلى هذا الحد أو ذاك، يكفون عن لعب دورهم كمثقفين. فالفلك المؤسساتي يحتاج المثقفين لكونهم مثقفين، ولكنه في الوقت عينه لا يريدهم كمثقفين. إنه يجذبهم إليه لكونهم ما هم عليه، ولكنه لا يسمح لهم أن يكونوا ولا أن يكفوا نهائياً عما هم عليه، على الأقل في مجالات نشاطاته المفصلية. يحتاجهم من أجل معارفهم ومواهبهم ونزعاتهم وشغفهم؛ ويصر على التزامهم بهذه الهِبات الطبيعية، أي توظيفها لخدمة أهدافه، وعدا عن ذلك لا نفع من المثقفين على الإطلاق».
تفضل الطبقة الليبرالية الراحة بدل المواجهة، ولن تتصدى للبنى المتفسخة لدولة الشركات، ولا تحتمل وجود من يتصدون لها، ضمن صفوفها. إنها تتشبث يائسة بهيكل رئاسة أوباما بعد أن انكشفت كقوة ميتة في ميدان السياسة الأمريكية. لذلك يتعين علينا أن نعبّد طريق عودتنا إلى الثوريين القدامى، إلى الماركسيين الذين شُوِّهت سمعتهم، والاشتراكيين، وحتى الفوضويين، بمن فيهم دوايت ماكدونالد ودوروثي داي.
اللغة أولى خطواتنا نحو الخلاص. فليس بوسعنا محاربة ما لا نستطيع وصفه.
«تروثديغ دوت كوم»