واشنطن في مؤتمر الدول المانحة لهاييتي.. تأكيد على سيطرة النموذج الاستعماري
لا تتوانى الإمبريالية الأمريكية عن استخدام شتى الوسائل لتستمر في مص دماء الشعوب، وهي في هذا الإطار، تسعى إلى الاستفادة البراغماتية القصوى من الكوارث والأزمات، مقنعة الرأي العام بضرورة تدخلها سواء تحت حجج الإرهاب أو الزلازل أو حقوق الإنسان.
لقد استغلت واشنطن الزلزال المدمر الذي ضرب هاييتي في كانون الثاني الماضي، لتنزل قواتها فيها، فكان الأمر أشبه باحتلال فيما بقايا الأرواح تحت الأنقاض، وساحة تدريب لنشر «ديمقراطيتها الدموية»، وفرصة لاستمرار نهبها، واستكمالاً لخططها الإستراتيجية في الهيمنة، كل ذلك بذريعة «المساعدات الإنسانية».
مؤخراً، عقد في نيويورك مؤتمر الدول المانحة لهاييتي، الذي جاء على شكل منتدى للنقاش بالنسبة للولايات المتحدة، ممثلة بشخصيها بيل وهيلاري كلينتون، ليؤكدا سيطرة النموذج الاستعماري على الجزيرة المنكوبة، وذلك تحت رعاية وزارة الخارجية الأمريكية والأمم المتحدة، والتي تعهدت فيه أكثر من عشر دول، ومؤسسات اقتراض متعددة الأطراف، ومنظمات خيرية بدفع مبلغ قدره «5.3» مليار دولار كمساعدة لهاييتي في السنتين المقبلتين، إضافة لـ«5» مليارات دولار لاحقاً. وهذا المبلغ، غير كاف لإعادة بناء هذه الدولة الفقيرة، التي فقدت بين 250.000– 300.000 نسمة من سكانها، وقدرت خسائرها بمبلغ «14» مليار دولار. وقد استلمت هاييتي 23 مليون دولار فقط نقداً من أصل أكثر من «1.35» مليار دولار من المساعدات الإنسانية المتعهد بها سابقاً.
وفي منصة الاجتماع، كان الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» والرئيس الهاييتي «رينه بريفال» محاطاً بوزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» وزوجها الرئيس السابق «بيل كلينتون»، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى هاييتي. حيث أعلن الرئيس «بريفال» تشكيل لجنة مؤقتة لإعادة إعمار هاييتي. برئاسة تشاركية بين رئيس الوزراء الهايتي «جان ماكس بيليرايف» و«بيل كلينتون»، واللذين سيشرفان على عملية «توزيع» أموال إعادة الإعمار..
وسيكون في مجلس هذه اللجنة ممثلون من الولايات المتحدة، كندا، البرازيل، فرنسا، فنزويلا والاتحاد الأوروبي، سوية مع البنك الأمريكي للتنمية، البنك الدولي والأمم المتحدة. هذه البنية، ستستمر بعملها لمدة «18» شهراً على الأقل، وهي مصممة لتضع مصير هاييتي في أيدي القوى الامبريالية، مع أيادي طويلة مهيمنة دون أي اعتراض للولايات المتحدة.
وعندها ستكون الحكومة الهاييتية الواهنة غير قادرة على اتخاذ أي قرار سيادي. كما دوّن في مقالة لدبلوماسي أوربي كبير، منشورة في «النيويورك تايمز» في 31 آذار: « هناك نوع من التذمر بشأن السيطرة المطلقة للولايات المتحدة من قبل وزارة الخارجية، على مؤتمر الدول المانحة،- إشارة لوجود بيل وهيلاري». هذا وقد كتب في «واشنطن بوست»: «على الرغم من الهاجس الدولي حول ضرورة أن تكون زمام الأمور بيد الهايتين لإعادة إعمار بلادهم، لكي لا يخدع أحد. إلا أن مشاركة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية في المؤتمر... وبيل كلينتون– مبعوث الأمم المتحدة الخاص لهاييتي– والاتفاق على التعاون مع رئيس الوزراء الهاييتي بالنسبة للإستراتيجية والتنسيق وطرق توجيه تلك المساعدة الدولية يوحي بأن ما خفي هو أعظم». تم التعهد في المؤتمر بمساعدة دولية قصيرة الأمد بقيمة«5.3» مليار دولار، حيث قدمت الولايات المتحدة فقط «1.15» مليار دولار، وأقل من «1.7» مليار دولار من الاتحاد الأوربي ولدرجة أقل من فنزويلا بمبلغ «1.3» مليار دولار. والتعهد الأمريكي لمساعدة الدولة التي خربتها بشكل كبير نتيجة للسيطرة الاستعمارية لأكثر من قرن، بما فيه الاحتلال العسكري المتكرر، لا يساوي إلا جزءاً يسيراً مقارنة مع الكمية المخصصة لإنقاذ وول ستريت.
وفي استجابتها للكارثة المدمرة قامت إدارة اوباما في كانون الثاني، بإرسال خفر السواحل والسفن البحرية للقيام بدورية في المياه حول هاييتي، ولحماية اللاجئين لإيجاد ملاذ آمن من الكارثة في الولايات المتحدة. وتلا ذلك احتلال عسكري ضخم، متضمناً أكثر من 12.000 من الجنود والمارينز.
أحكمت الولايات المتحدة قبضتها على مطار «بور أو برنس»، ومنعت لأيام دخول المعونات الغذائية، والمياه، ورجال المساعدات الطبية للمدينة بحجة شدة قوة الزلزال، بينما كان يسمح بنشر قواتها العسكرية في البلاد.
إن هدف واشنطن الأهم كان قمع أي اضطراب شعبي يظهر بسبب الكارثة، والاستفادة من المأساة لنهب البلاد.
وبالنتيجة، مات الآلاف دون سبب، إما دفنوا تحت الأنقاض، أو ماتوا بسبب إصاباتهم التي لم تجر معالجتها. وبعد أكثر من شهرين، اجتمع «الأعيان» في نيويورك، وناقشوا خططهم «لإعادة أعمار» هاييتي. أكثر من مليون من السكان الهاييتيين خسروا منازلهم، وذهبوا يصارعون من أجل البقاء في خيم مؤقتة منثورة في معسكرات ملوثة، دون مجاري صحية أو حتى أدنى الأشكال من الخدمات الأولية.
واستمرت القوات العسكرية الأمريكية في السيطرة على المطار وبقيت فرقة عسكرية كبيرة في البلاد.
ونشرت نيويورك تايمز في 27 آذار، أن معظم أموال المساعدة التي قدمت لهاييتي، قد انتهى بها المطاف بيد النخبة الحاكمة الصغيرة جداً، والتي تنعم بالترف، بينما 80% من السكان يعيشون بمستوى دخل أقل من 2 دولار يومياً. وقد استشهدت «التايمز» بتعليق من احد القاطنين في الخيام المنصوبة في منطقة Pétionville الراقية بأن « الأغنياء يحتاجون أحياناً للمرور فوق أجسادنا حتى يصلوا إلى داخل مطاعمهم الفارهة».
وكانت هيلاري كلينتون متيقنة من خطر انفجار اجتماعي بين الجماهير الهاييتية المضطهدة، عندما صرحت في مؤتمر الدول المانحة: «التحديات التي عصفت بهاييتي يمكن ان تنفجر، وأن يكون لها بعدعالمي». واستمرت كلينتون بالقول، كما كان الزلزال، يجب الإصرار على إنقاذ هايتي من خلال جلب الرأسمال الخاص، والأمريكي بالدرجة الأولى، بالترويج لإمكانية الربح من الاستثمار في هايتي لوجود العمالة الرخيصة, وقالت بأنها تعمل على إزالة الحواجز الجمركية لاستيراد الملابس الهايتية إلى أمريكا. هذه الملابس المنتجة من قبل عمال يكسبون أقل من «3» دولار في اليوم.
وإشارة لتعليقاته المقدمة للمؤتمر عن المأساة الإنسانية والاجتماعية ببضع مقارنات في التاريخ الحديث– الذي ساهم بإملاء شروطه كرئيس– تكلم كلينتون كما لو انه يناقش في اندماج الشركات أو إنشاء صندوق وقائي جديد قائلاً: «سأعمل لمدة ثمانية عشر شهراً القادمة، وسأحاول الاتصال مع قوى داخلية وخارجية بالطريقة التي تزيد من مساهمة وتأثير كل الممثلين في دعم هاييتي لتخفيض كلف الصفقات التجارية والخلافات».
بالإضافة للسيطرة على أكثر شركات المنتجة للثياب، يبدو أن العامل الرئيسي لـخطة «إعادة الأعمار» المعروضة من الرئيس الهاييتي «بريفال» بمباركة أمريكية، هو التركيز على نقل العمال الفقراء من بور أو برنس إلى المناطق الريفية البعيدة. وهذا يخدم بشكل مضاعف حيث يسمح بحرية أكبر للرساميل وتكون أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، ويقسم الطبقة العاملة على أمل تفريق قوتها السياسية والاجتماعية المحتملة.