حرب الضرورة
بعد إعلان ما سمي استراتيجية أوباما الجديدة التي لا تعدو كونها «وثيقة أزمة»، تكشف التطورات عن مدى تعاظم المأزق الذي تعانيه كل البلدان الامبريالية خاصة الولايات المتحدة (وبالتبعية الكيان الصهيوني)، وفي مناخ يبرز فيه التشابك والتفاعل والتغذية المتبادلة بين عناصر المأزق.
كانت نتائج قمة العشرين ثم قمة الثماني كاشفة بجلاء عن المأزق. وأثبتت بجلاء أن ماكانت تلجأ إليه الامبريالية في الماضي من خيارات وحيل لتجاوز أزماتها باتت في ذمة التاريخ، وولت بلا رجعة.
القضية المفتاحية التي أبرزت عمق المأزق هى التوجهان المتضادان لكل من أوربا وأمريكا لدى بحث سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية. إذ بينما تحمل أوربا عبء الأزمة التي صنعتها الرأسمالية المتوحشة على الطبقة العاملة والفقراء، عبر تخفيض الانفاق الذي يترجم إلى تخفيض الرواتب والمعاشات والانفاق الاجتماعي، فإن أمريكا ترى أن الحل هو في زيادة الانفاق لخلق الانتعاش.
أوربياً فإن مقاومة هذه السياسات خاصة في اليونان وأسبانيا والبرتغال وحتى رومانيا تزداد شراسة وسوف تنتقل إلى البلدان الأخرى. غير أن هذه المقاومة قد انتقلت في اليونان إلى مستوى جديد، حيث شاعت في أوساط الرأي العام مقولة أن الانضمام إلى الاتحاد الأوربي كان نقمة، وتسبب في نهب الثروات الوطنية. أي أنه كان مجرد الحاق بالمعنى الاستعماري، تم لحساب الاحتكارات الدولية الكبرى. وهو ما يشير إلى بداية وضع علامات استفهام أمام مصير الاتحاد الأوربي بطبيعته الامبريالية الراهنة، خصوصاً مع تصاعد حدة الصراع الطبقي في مجتمعاته.
أمريكياً فإن الأمر الأشد غرابة، يكمن في الإعلان عن سياسة التوسع في الإنفاق. ففي حين تم ضخ ما يقارب تريليون دولار لدى تفجر الأزمة التى كانت كامنة، ولم تسفر عن تحسن الوضع، فإن السؤال المطروح هو من أين؟ هل عبر سندات على الخزانة تشتريها الصين؟ أم بتشغيل مطابع مجلس الاحتياط الفدرالي بأكثر من طاقتها لانتاج مئات المليارات من «ورق الدولار»؟ أو بالأمرين كليهما ليصل الدين العام إلى عنان السماء؟
المفارقة المضحكة هي في ازدياد ثروات أصحاب المليارات حسب ما أعلن عنه، في ظروف الأزمة الخانقة، الأمر الذي يؤكد أن الخلل الهيكلي والانحطاط الهائل في هذا النظام الرأسمالي قد بلغا أوجهما، وأن ازدياد الثروات الشخصية في ظل أزمة الاقتصاد بوجه عام وبخاصة الاقتصاد الحقيقي تؤكد الطابع المافيوي غير المشروع قانونياً وسياسياً وأخلاقياً، وأنه لاسبيل لإصلاحه.
أين نحن من ذلك الوضع؟
منطقتنا هي الأكثر سخونة. صحيح أنه توجد بؤر أخرى للتوتر مثل شبه الجزيرة الكورية، ولكن إقليمنا العربي– الإسلامي هو الأكثر أهمية في الحسابات الإستراتيجية. في حين أن كيان الاحتلال الصهيوني في فلسطين، وبخاصة منذ انتصار حزب الله في حرب 2006، يعاني من تراجع شديد، وتتسع الدوائر الجماهيرية، بل والحكومية، في كل أصقاع الأرض، التي تعتبره كياناً عنصرياً مثل جنوب افريقيا في السابق، بينما يزداد وهن وانكشاف ما يسمى محور الاعتدال العربي وكل قوى اليمين أصحاب المشروع الليبرالي التابع.
وفي المقابل تزداد الدول المقاومة (إيران وسورية) وحزب الله والقوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، قوة وتماسكاً وتلاحماً ويستعر العداء للحلف الصهيو– امبريالي وعملائه المحليين على المستوى الشعبي العربي والإسلامي بشكل لا سابق له.
لكن ذلك لا يعني زوال المخاطر التي تواجهها منطقتنا.
أوربا والحرب:
صحيح أن وحدة الموقف الأوربي– الأمريكي، إزاء الصراع العربي– الإسرائيلي قائمة.. وصحيح أيضاً أن موقفهم موحد ازاء البرنامج النووي الإيراني، لكن التفاعلات الأوربية– الأمريكية خلال السنوات الماضية، واستدراج الأوربيين إلى حربي أفغانستان والعراق قد خلقا موقفاً معقداً إزاء قضية الحرب. إذ أدركت أوربا واستوعبت الدرس الناتج عن التقديرات الأمريكية الخاطئة ومغبة الانجرار وراءها. إذ لم تعد عليها هذه الحروب بأي مكاسب بل عادت حتى الآن بالنكبات. كما وأنه «لو» تحققت مكاسب في المستقبل فإنه يستحيل على أوربا استخلاص بعضها من الأمريكيين.
لذلك فإن السبب الدافع للحروب الأوربية تاريخياً وهو تصدير أزماتها الى الخارج، قد بدأ ينزاح جانبا ولو إلى حين.
أمريكا (وإسرائيل) والحرب :
تاريخياً كانت أمريكا تدخل الحروب في أعقاب أزمة و بداية الانتعاش.
تحدثت وثيقة أوباما عن التوجه للاهتمام بالاقتصاد ، كما أعلن عن سياسته بالنسبة لزيادة الانفاق.
بما يستفاد منه العمل على الخروج من الأزمة وتحقيق قدر من الانتعاش والنمو يسمح له باتباع السياق الأمريكي التاريخي في دخول الحروب .
كانت أمريكا في الماضي (خصوصاً في زمن الحرب الباردة) تعتمد «الإعلام» كسلاح فعال في صراعاتها وحروبها المحدودة الكثيرة. وكان الإعلام هو حامل الايديولوجية العدوانية التوسعية المتشحة بمسوح الديمقراطية الأمريكية وحقوق الانسان والقيم الأمريكية وصولاً إلى الحرب على الإرهاب.
الرهان على الاقتصاد لتجاوز الأزمة الى الانتعاش رهان خاسر. وفي أفضل الأحوال يستلزم وقتا غير معلوم. والإعلام حامل إيديولوجية التضليل الأمريكية فقد الكثير جداً من فاعليته نتيجة الافلاس الايديولوجي وافتضاح أمره من ناحية ، ولوجود الاعلام الواسع خصوصا المضاد من ناحية أخرى.
وبما أن القادم أسوأ بالنسبة للرأسمالية عموماً وقيادتها الأمريكية بوجه خاص حسب كل المعطيات الواقعية، وحيث التعقيدات الراهنة، وفي ظروف مناخ الحرب التي تخيم على المنطقة، والتي تدفع الكيان الصهيوني- الذي بدأ يستشعر الخطر على وجوده، ورفض كل شعوب المنطقة له، فإن الولايات المتحدة ربما لا تستطيع الانتظار طويلاً لحين انتعاش لن يتحقق. وبالتالي تخرج عن السياق التاريخي لحروبها، لتدخل «حرب ضرورة».