محرقة التفتيت يمكن النجاة منها
أسلوبان اعتمدهما الاستعمار إزاء منطقتنا هما الاخضاع بالحرب والغزو، وتفتيت المنطقة إلى كيانات. غير أن الحرب بحكم التجربة الحالية هى خيار عالي التكلفة، وهو ما أكدته الحرب على العراق وأفغانستان، كما أكده عدوان 2006 على لبنان حيث تمت عملية تأديب غير مسبوقة للعصابات الصهيونية داخل تحصيناتها في عمق فلسطين المحتلة (للمرة الأولى في تاريخها)، وزلزلت الاعتقاد الصهيوني بأبدية استمرار وجوده وحلمه في التوسع، وتوقف مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتعزز الأمر بصمود المقاومة الفلسطينية في غزة في وجه العدوان الصهيوني الذي فشل في فرض الاستسلام. وهو ما أرغم العدو على التراجع أو على الأقل إبطاء الاستمرار في خيار الحرب في حين تحول إلى خيار تقسيم وتفتيت المنطقة لأنه الأقل كلفة، ولأنه يعتمد لحد كبير على عملاء محليين.
بدأت العملية بالسودان، ويلوح تقسيم العراق في الأفق، وتجري على قدم وساق مساعي التقسيم في كل البلدان العربية تقريباً وان بدرجات متفاوتة بما في ذلك مصر غير القابلة بعوامل الجغرافيا والتاريخ للتقسيم.
بلداننا العربية في معظمها متعددة القوميات (عرب– أكراد– تركمان– أمازيغ– نوبيون– أفارقة إلى جانب أقليات أخرى أرمنية وشركسية... الخ) ومتعددة الأديان (مسلمون شيعة– سنة– دروز) و(مسيحيون أرثوذكس– كاثوليك- بروتستانت) وداخل مذاهب كل دين فرق شتى.
تعايش كل هؤلاء بانسجام واستقرارحتى وإن لم يكن نموذجياً، إذ اعترته أحياناً فترات من عدم الاستقرار بسبب عوامل شتى لم تصل ولم تشابه أبداً الحروب الدموية الدينية والقومية في أوربا. وأسهم هؤلاء جميعاً في بناء الحضارة العربية– الإسلامية التي كانت نتاجاً لتفاعل حضارات كل شعوب الدولة الاسلامية (الفارسية– البابلية والأشورية– الكردية– شعوب وسط أسيا والقوقاز– العربية– الفينيقية– الكنعانية– المصرية الفرعونية والقبطية– الأمازيغية– الأفريقية). ذلك بينما كانت أوربا تعيش ظلامية وجهل العصور الوسطى حيث تلاشت مدنها تقريباً، وتقوقعت أرستقراطياتها الاقطاعية في قلاعها وحصونها. لذا كان ينبغي أن يستمر التنوع عندنا كمصدر قوة، لا أن يكون مدخلاً للتفتت والاحتراب وجر الاقليم كله مفتتاً وعاجزاً إلى حظيرة الهيمنة الصهيو– امبريالية.
كارثة التفتيت حلت بالفعل، وأصبحنا– وياللعجب– لا نرنو لأبعد من الحفاظ على «سايكس– بيكو»(!!) لأن القادم أسوأ، ولا يعدو التقسيم السابق سوى مقدمة للقادم.
القوى الساعية لتفتيت بلداننا هى بالطبع الامبريالية والصهيونية وهي أيضاً القوى الحاملة للمشروع الرأسمالي في بلداننا سواء كانت في الحكم أو خارجه، أياً كانت التسمية التي يطلقونها على مشروعهم (اقتصاد سوق– اقتصاد حر– اقتصاد رأسمالي)، ذلك أن المشروع الرأسمالي في بلداننا ظهر إلى الوجود بينما كانت الرأسمالية كنظام قد شاخت، وبالتالي فهو كطفل أنجبته أم وهي على مشارف الشيخوخة وأب تجاوز المائة عام بكل ما يحمله الوليد من تشوه. ولذلك، وكما نشاهد في الواقع، فإن رأسمالية بلداننا ذات طابع كمبرادوري وقائمة على اللصوصية والفساد، يمكنها أن تنمو نمواً مشوهاً وطفيلياً، ولكنها لا تستطيع أن تنمي. إنها لا تستطيع أن تخرج من أسر التبعية.
كانت الرأسمالية كنظام في مراحل فتوتها الباكرة في الغرب، تعمل على توحيد سوقها، وبالتالي تبلورت قضية القوميات في أوربا على أساس وحدة وحماية السوق المحلي. رغم ما أنتجه هذا السوق من تناقضات داخلية طبقية وغيرها. فقد جرى توحيد قوميات عديدة في إطار دولة واحدة متغلبة بشكل أو آخر على التناقضات القائمة في أغلب الأحيان. وتجاوزت كل ذلك إلى إقامة وحدات أوسع متعددة القوميات مثلما نشهد في الاتحاد الأوربي.
لكن اقتصاد السوق في بلداننا في ظل رأسمالية ولدت بعد الأوان فقد تحول إلى أداة تفتيت، رغم وحدة الأرض والتاريخ والثقافة. ويعود ذلك إلى تبعيتها واستحالة الفكاك من هذه التبعية، وكذا تخلفها وضيق أفقها واعلاء مصالحها الخاصة على المصالح الوطنية والقومية. إن المشروع الرأسمالي في بلداننا يدفع للتنافر بين القوميات المختلفة أبناء البلد الواحد، بل إلى تنافر بين أبناء القومية الواحدة على أساس ديني أو مذهبي أو عشائري، رغم العمق التاريخي والجغرافي والحضاري الواحد أياً ما كانت التناقضات الثانوية التي تنشأ والتي لا يمكن موضوعياً أن تفضي إلى التفتيت. انها في سبيل مصالحها الضيقة وعدم اكتراثها بالقضية الوطنية تلغي المواطنة المتساوية بين أبناء البلد الواحد على أسس قومية أو دينية أو مذهبية... الخ، بما يهيئ الأرض موضوعياً لنزعات الانفصال.
لقد كانت الكارثة التي ألمت بمصر، بل وبالعالم العربي هى نتيجة الصلح المنفرد مع «إسرائيل» والتطبيع معها. كان التمهيد لهذه الكارثة هو اندفاع السادات إلى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية التي زعم أنها تملك 99% من أوراق اللعبة. لم يكن الاندفاع على المستوى السياسي وحده، ولكنه امتد بطبيعة الحال إلى المستوى الاجتماعي– الاقتصادي بفتح البلاد أمام رأس المال الأجنبي (البنكي بوجه خاص) وما تلا ذلك وصولاً إلى الخصخصة في عهد مبارك وما صاحبها من تخريب ودمار.
التلازم بين ولوج طريق إطلاق العنان للرأسمالية وبين التبعية للامبريالية ثم الكيان الصهيوني بالضرورة (بشكل صريح أو مموه) لا مفر منه. ولعل حرص المؤسسات المالية الدولية والدول الامبريالية ذاتها على اشتراط فرض اقتصاد السوق وإطلاق العنان للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، وتضمين ذلك الفرض في أية قضايا من أي نوع، كما النص على ضرورة الخصخصة باعتبارها أحد الأسس التي يقوم عليها مشروع الشرق الأوسط الجديد، لعل ذلك كله يعطي الدليل على أن ما يسمى الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق هو الحامل الرئيسي للبرنامج الصهيو– امبريالي لتدمير الاقليم وتفتيته.
إذا كان النضال ضد الامبريالية وضد الكيان الصهيوني وضرورة إزالته، هو ضرورة وجود، فإن النضال ضد المشروع الرأسمالي وموضة اقتصاد السوق التي تسود في بلداننا هى ضرورة قصوى، باعتبار أن المشروع الرأسمالي (المحلي) هو حامل ومغذي ومتكامل مع المشروع الامبريالي الصهيوني التفتيتي لبلداننا والمهدد لوجودنا.
المشروع الرأسمالي التابع في بلداننا ينتج بالضرورة تناقضات مضافة إلى التناقضات المعروفة التي تنتجها الرأسمالية، فهو إذ يخلق غابة مليئة بالضواري المتوحشه في عصر انحطاط الرأسمالية وتوحشها غير المسبوق نتيجة الاستغلال المزدوج (المحلي والأجنبي) فهو أيضاً يدفع إلى تكريس المواطنة غير المتساوية، بما يغذي موضوعياً الاندفاع تجاه التحصن بالتعصب القومي والديني والمذهبي وحتى العشائري والقبلي.
إن الحصن الحصين والملاذ لبلداننا وشعوبنا هو في النضال من أجل المشروع الاشتراكي لأنه الوحيد الذي يقطع الطريق على مشروعات الدمار القادمة، وينقذنا من محرقة التفتيت.