محمد الجندي محمد الجندي

الأسعار العالمية والأجر البلدي

استهلاك المحروقات واسع جداً في أغلب البلدان، ولذا يسيل لعاب أغلب الإدارات على اقتطاف ثمرة ذلك، فرفع الدعم عنها يوفر مورداً هاماً يكبر تبعاً لكبر البلد، ولحجوم استهلاكها. والذريعة هنا هي أن الدعم يكلف الميزانية العامة كثيراً.

الواقع أن الأرقام التي تعطى عن كلفة الدعم هي عموماً غير صحيحة، فكلفة المحروقات على البلد، كثيراً ما تكون مساوية للسعر المدعوم، وفي كل الحالات هي أدنى بكثير مما يسمى بالسعر العالمي.

وتنسى الإدارة عند بيع المحروقات بالسعر العالمي، أن هذا يؤدي تدريجياً إلى رفع سعر جميع الضروريات إلى السعر العالمي، فتصل البندورة والدواء والكتب المدرسية، وأقساط التعليم إلى السعر العالمي، وفي الوقت نفسه تبقى الرواتب والأجور أصغرية، ويحصل تناقض بينها وبين «السعر العالمي»، وحتى إذا زيدت الرواتب والأجور قليلاً أو كثيراً، يكون ذلك على حساب التضخم النقدي من جهة، ولضخ سيولات نقدية في المجتمع لتشجيع الشراء، من جهة أخرى، أي لا يكون ذلك في نهاية المطاف لمصلحة أصحاب الرواتب والأجور، فيبقون يغوصون في المتاعب المعيشية، وينتقلون من الكفاية إلى ما تحت خط الفقر، ومن الفقر إلى الجوع. أي تزيد الإدارة موردها من زيادة أسعار المحروقات، ولكن تخسر في الوقت نفسه أيضاً التضخم النقدي الدولي يزيد آلام الشعوب، فالدولار تهبط قيمته الشرائية بشكل عمودي، والعملات المحلية تهبط بشكل أكبر، ويكفي أن يقارن المرء الرواتب والأجور في بلد ما بما يقابلها من الغرامات الذهبية، حيث كثيراً ما يهبط متوسط الأجور إلى ما يقابل غرامات محدودة من الذهب (10 غرامات، مثلاً) بينما كانت في ستينيات القرن الماضي تقابل أضعاف ذلك.

من جهة أخرى، رفع الدعم عن المحروقات أو غيرها هو جزء مفصلي من الليبرالية الجديدة، التي ترتكز سياستها الاقتصادية على الأخذ من الفقراء لمصلحة الأغنياء، وبهذه الحكمة تتلخص وصفات التصحيح الهيكلي للاقتصاد الذي بشرت به الإدارة الأمريكية عبر المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، الخ.

وهذه الوصفات في العالم الثالث هي مؤلمة أضعافاً مضاعفة، لأن الأموال التي تذهب للأغنياء لا توظف عموماً في الإنتاج من أجل خلق تطور صناعي، وإنما في مجالات خدمية، حتى في حالة تصنيع منتجات، قطعها مستوردة من بلدان أخرى. عدا ذلك، أغلب الأرباح تذهب إلى البنوك الدولية، حيث يخسرها البلد ويخسرها صاحب العلاقة في نهاية المطاف.

ورفع الدعم عن المحروقات هو في حصيلته نوع من الضريبة التي تفرض على الشعب، وفي البلد الثالثي، ذي الاقتصاد الحرفي والخدمي، لا يبقى لميزانيته العامة مورد سوى الضرائب التي تتفاقم وتتنوع تسمياتها، وفي النهاية يبقى العجز في الميزانية، لأن الفقر ليس لديه ما يعطيه سوى القليل، والاعتماد على القروض الخارجية يؤدي إلى خسارة البلد لسيادته، وأيضاً إلى الإفلاس، كما في الحالة اليونانية وغيرها.

إضافة إلى كل ما تقدم، فإن رفع الدعم عن المحروقات يؤدي إلى خسائر تعادل أضعاف ما تربحه الإدارة من الرفع، لأنه يضر بالزراعة، التي هي المصدر الأهم للإنتاج المادي الثالثي، وقد يتزايد الضرر تدريجياً إلى درجة الوصول إلى الوقت  الذي لا تستطيع فيه الإدارة إطعام شعبها.

الواقع أن ما يتعلق بالبترول هو أهم بكثير من الدعم وعدم الدعم. إن العالم، وبالدرجة الأولى الرأسمالية الدولية تهدر البترول، أي تهدر أهم ثروة تاريخية هي اليوم في يد الإنسان، وهذه لا تهدره فقط كمصدر للطاقة، وإنما أيضاً في الحروب التي تشنها أو تحرض عليها، والتي تستهلك البترول والبشر والبيئة. لو كانت تستنزف الدول المنتجة للبترول من أجل بناء صروح صناعية ضخمة تشمل العالم وتطوره، لكان ذلك الاستنزاف لصالح البشر، ولكنها تستنزف لمصلحة إفقار شعوب العالم، ومن الجملة شعوبها ولمصلحة قتل الإنسان وتدميره.

جدلية الدعم وعدم الدعم، والفقر عموماً هي من جملة النتائج الفرعية side effects لفعل الرأسمالية الدولية الشامل في الكوكب وفي الإنسان.