شحادة موسى شحادة موسى

الانقسام الفلسطيني: دعوة للمصالحة بدل إسقاط النظام

ترتفع هذه الأيام الأصوات التي تدعو إلى المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني. وتأتي هذه الأصوات من جميع الاتجاهات: من طرفي النزاع الرئيسيين، حركتي فتح وحماس، ومن الفصائل الأخرى، ومن الشارع حيث سارت مظاهرات ترفع شعار «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، على غرار شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي رفعته الجماهير العربية في انتفاضاتها الراهنة.

 

والدعوة للمصالحة ليست جديدة، فقد سمعناها على مدى سنوات. واللافت هذه المرة، أنها لا تربط بين المصالحة ومقاومة الاحتلال وتحرير الأرض، مما يوحي بأن المطلوب هو المصالحة لذاتها، على اعتبار أن الانقسام مذموم، وينعكس سلباً على العلاقات بين أبناء الشعب الواحد. واللافت أيضاً، أن هذه الدعوة تأتي في ظل مناخ جديد، على المستويين العربي والفلسطيني، يحمل رياح التغيير ويستدعي أكثر من الدعوة للمصالحة.

على المستوى العربي هناك حراك شعبي عظيم، للخلاص من وطأة الظلم والقهر، ومن أنظمة الاستبداد العربية التي تمارسه ضد شعوبها. أما على الصعيد الفلسطيني فيلاحظ وجود صورتين متناقضتين. فهناك من جهة، تحرك إسرائيلي نشط على الأرض الفلسطينية، يتجلى في تسارع وتيرة الاستيطان والتهويد في القدس وباقي الضفة الغربية، وفي حصار خانق لقطاع غزة. كما يتجلى بمواقف وممارسات ضد أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948، وضد القضية الفلسطينية برمتها. وفي المقابل، يلاحظ وجود حالة كئيبة من الركود الثقيل على الجانب الفلسطيني، خاصة بعد توقف المفاوضات مع «إسرائيل»، والتي كانت تشكل مظلة للزعم بوجود حركة سياسية فلسطينية. وتبدو أطراف الصراع الداخلي، والتي يمكن اعتبارها مجتمعة بمثابة «النظام الفلسطيني»، فاقدة الحركة وتكتفي بالتفرج على ما يجري حولها، في حين تنشغل بمشاريعها الخاصة لتعزيز نفوذها ومصالحها.

في ظل هذا المناخ، من الطبيعي أن تشعر جماهير الشعب الفلسطيني بالغيظ والقلق، وان تتحرك لإسقاط النظام والتخلص من الحالة البائسة التي وُجدت بسببه. ولذا، تأتي الدعوة الحالية للمصالحة وكأنها محاولة التفاف وإجهاض لتحرك يقود إلى أن تأخذ الجماهير قضيتها بيدها، وتباشر مجابهة العدو وجهاً لوجه على كافة المستويات. والسؤال البديهي الذي يُوجه لأطراف النزاع هو: إذا كنتم تريدون حقاً أن تتصالحوا فما الذي يمنعكم؟ فإنما أنكم غير صادقين بدعوتكم، أو أن إرادتكم ليست بيدكم. وفي الحالتين انتم لستم أهلاً لقيادة هذا الشعب، ولا تستحقون احترامه. ثم إن المصالحة بالتعريف، هي إنهاء النزاع بحلول ودية بين أطرافه، فهل أنتم متفقون على موضوع الخلاف المطلوب حله ودياً؟

والواقع أن مساعي المصالحة على مدى السنوات الماضية، أكدت أن هذه المصالحة أشبه بمهمة مستحيلة. فقد تبين أن لكل طرف فهمه الخاص للمصالحة، ونواياه تجاهها، وذلك انطلاقاً من حرصه على ما يعتبره «انجازاً» حققه هو ويرى فيه، ويريد من الآخرين أن يروه كذلك، إنجازاً ومصلحة وطنية، لا يجوز التخلي عنه.

فحركة فتح (ومعها فصائل م.ت.ف) ترى أن السلطة التي حصلت عليها بموجب اتفاق أوسلو تمثل «انجازها» التاريخي. وهي لذلك تتمسك بهذه السلطة، ولا يمكن أن تفرط فيها وإن كانت لا تمانع بإعطاء حصص منها لشركائها. وفي سبيل ذلك تضع شروطاً تعجيزية للمصالحة، في مقدمتها الاعتراف بـ«إسرائيل»، ونبذ المقاومة.

وحركة حماس حققت «انجاز» السيطرة على قطاع غزة، عبر مقاومة الاحتلال، وصناديق الاقتراع، والقوة المسلحة ضد حركة فتح. وهي مرتاحة لهذا الوضع، الذي يتيح لها تطبيق إيديولوجيتها الدينية كما تتجلى في «اللباس الشرعي» للمرأة، وفي حماية «القيم الإسلامية» على مستوى السلوك الشخصي والجماعي، وتعبيرات الفكر والأدب والفن. ولذلك تحرص حماس (ومعها حركة الجهاد وفصائل الخارج) على هذا الانجاز- السيطرة على القطاع- وتضع للمصالحة شروطاً تعتبرها فتح خارج قدرتها بحكم التزاماتها التي رتبها اتفاق أوسلو.

وتحالف اليسار (شريك حركة فتح) لم يستطع تحقيق انجازه الخاص، إلا أن لديه انجازات منظمة التحرير الفلسطينية التي تحققت في الماضي، وكان اليسار شريكاً فيها. ولذلك يحرص على التأكيد أن المنظمة هي قيادة الشعب الفلسطيني، ويعتبر ذلك (ومعه حركة فتح) شرطاً للمصالحة.

وعلى هذا، فإن ما يريده طرف من المصالحة، يتعارض مع ما يريده الطرف الآخر.

فحركة فتح تريد أن يتصالح الآخرون معها ويوافقوا على اتفاق أوسلو وتوابعه. وإذا ما تحقق لها ذلك فسوف تظهر للملأ على أنها على حق، وتضمن انحياز غالبية الشعب لها.

وحركة حماس تريد من الآخرين التزاما بعدم الاعتراف بـ«إسرائيل». وتحقيق ذلك يُظهر أن فتح وفصائل م.ت.ف.على خطأ ويضعهم في مأزق.

وهكذا يتبين أن هناك عقبة موضوعية أمام تحقيق المصالحة، يشترك فيها الجميع، من خلال سعي كل طرف، للتمسك بما يعتبره انجازه التاريخي، ولتحسبه لموقف مؤيديه وجماهير الشعب، إن هو اعترف أو سلٌم بانجاز الطرف الآخر. ولهذا تبدو المصالحة مهمة مستحيلة، اللهم إلا إذا كانت حول تقاسم السلطة ومنافعها، وبئس المصالحة تلك.

وينبغي التأكيد هنا، بأن هذه المواقف لا تنسحب على عموم الشعب الفلسطيني. فهناك قطاعات واسعة من جماهير شعبنا ومثقفيه ومناضليه، لديها رؤاها التي لا تنحاز أو تنحصر بمواقف هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع الداخلي. وهي على وعي بحقائق قضيتها الوطنية وأبعادها، وليس من السهل حرفها عن جوهر هذه القضية وأهدافها.

فهذه القطاعات تدرك مثلاً، أن تسوية للصراع مع «إسرائيل» بمفاهيم أوسلو ومصطلحاتها، هي تسوية باطلة ومرفوضة، لأنها تجري في نطاق المشروع الصهيوني وأهدافه.

وهي وإن كانت تؤيد نهج المقاومة وتتمسك به لانتزاع حقوقها، فإنها تدرك أن شعبنا قد صاغ مسيرته النضالية الطويلة، بروح من الديمقراطية والانفتاح والتسامح. وهي لهذا ليست على استعداد للتحول أو الخضوع لنهج أصولي متزمت يستحضر في الذهن نموذج حركة طالبان في أفغانستان.

وهي بالتأكيد لن تحترم أو ترضى عن المصالحة، إذا كانت من أجل تقاسم السلطة بين أطراف النزاع.

وعلى أي حال، فإن هناك مؤشرات ايجابية في أوساط شعبنا تبعث على الأمل بتخطي هذه المعضلة، الناجمة عن الانقسام والمسببة له في آن واحد. فقد بدأت تظهر توجهات وتعبيرات نحو طريق جديد يتجاوز «النظام الفلسطيني» القائم بأطروحاته وممارساته، يتجاوز أطروحات السلام الجوفاء، كما يتجاوز أطروحات الأوهام والتصورات غير الواقعية، ويتجاوز المقاومة الفلكلورية (ارتداء الكوفية والتلويح بالعلم)، كما المقاومة من أجل المقاومة وزيادة عدد الشهداء.

إنه طريق يجسد المقاومة بكافة أشكالها، ويمارس الاشتباك اليومي مع الاحتلال حتى دحره، ومع المشروع الصهيوني بهدف توسيع دائرة التساؤل والمساءلة والمحاكمة، لشرعية وجوده وكل منجزاته وأفعاله. ويطرح في الوقت نفسه، رؤى سياسية عقلانية لإنهاء الصراع، بأفق يرفع الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني، ويحقق له العدل والعدالة، ويضمن الأمن والسلام لكل من يعيش في الوطن الفلسطيني.

إن هذا التوجه يمكن أن يشكل جامعاً وطنياً وأساسا للمصالحة والوحدة الوطنية، ويشكل معياراً لمصداقية وجدية أطراف النزاع، في التوصل إلى مصالحة حقيقية وإنهاء الانقسام. وما لم يتم تجاوز النظام القائم، نظام الرؤى والمصالح الفئوية، فسوف تبقى المصالحة والقضية الوطنية نفسها، مجرد شعار خالي المضمون.