أمريكا اللاتينية ومنطق المرحلة الجديدة
بعد عقود من المحاولات الأمريكية لإخضاع الشعب الكوبي بالحصار، خلص الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، إلى أن «سياسة العزل التي مارستها واشنطن ضد كوبا أخفقت في تحقيق أهدافها»، معلناً أن بلاده ستنهي هذه السياسة لتفتح صفحة جديدة بين البلدين.
أكثر من خمسين عاماً مرت على الحصار الأمريكي شبه المطلق للجزيرة الكوبية، لم تكن كافية لإنهاكها وجرها للقبول بأي حل يفرضه القطب الأوحد (آنذاك)، وذلك بفضل النموذج الثوري الذي بنته كوبا للصمود في وجه الإمبريالية العالمية.
على الرغم من جور العقوبات والعزلة الدولية بفعل الهيمنة الأمريكية حتى وقت قريب، فإن كوبا لم تنجح في الصمود بوجه الإمبريالية الأمريكية فحسب، بل وأثرت فعلياً في تطورات الحالة السياسية في أمريكا اللاتينية.
أمريكا اللاتينية وطور «بريكس»
بالعودة إلى العام الماضي، فقد شهدت أمريكا اللاتينية تعميقاً للعلاقات السياسية والاقتصادية مع دول «بريكس» الصاعدة، والتي تجلت بإعلان الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وقادة دول مجموعة أمريكا اللاتينية والكاريبي «سيلاك»- من العاصمة الصينية بكين- عن تأسيس منتدى دائم للتعاون فيما بينها، وتحديد تفاصيل خطة التعاون الممتدة لخمس سنوات مقبلة، وبزيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لدول أمريكا الجنوبية والوسطى، والتي حملت تعزيزاً للعلاقات التجارية والاقتصادية، خصوصاً في مجالات الطاقة والطيران المدني والطب والتكنولوجيا.
هنا، يمكن القول أن الولايات المتحدة، التي لا تزال تخسر مزيداً من نفوذها على مستوى العالم، أصبحت في هذه المرحلة مهددة جدّياً بخسارة نفوذها السياسي والاقتصادي على حدودها الجنوبية، بسبب عاملين أساسيين:
الأول: متعلق بالظرف الدولي الناشئ، ومتمثلاً بصعود قطب «بريكس»، ومن بين مميزات هذا الاستقطاب العالمي الجديد، التناقض الواضح بين العلاقات المبنية على أساس المصالح المشتركة للدول، وبين علاقات الهيمنة، التي فرضتها الولايات المتحدة بالتحديد على شعوب الدول النامية، بما فيها دول أمريكا الجنوبية.
والثاني: يرتكز على بناء كوبا، ومن بعدها فنزويلا، لنموذج ثوري حقيقي في القارة، استطاع امتصاص هجمات الإمبريالية الأمريكية المستمرة، على شعوب هذه المنطقة وحريّاتها، سواء بالعقوبات الاقتصادية أو بتمويل الثورات الملونة داخل هذه الدول. والنتيجة التي برزت منذ أوائل هذا القرن، كانت اعتلاء اليسار الاشتراكي سدة الحكم في جميع هذه الدول، باستثناء كولومبيا التي أطلق عليها الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز «(إسرائيل) أمريكا اللاتينية».
ماذا تريد الولايات المتحدة؟
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية، أن سياسات الابتزاز المتّبعة تجاه كوبا ستصعّب من مهمة إعادة صياغة علاقاتها مع باقي دول أمريكا اللاتينية لاحقاً، هذا فيما لو افترضنا أن «تياراً عقلانياً» في الإدارة الأمريكية أدرك مخاطر استمرار سياسات الهيمنة نفسها في هذه المنطقة، التي هي موضوعياً، مجال حيوي أمريكي في حال استمرار تراجع الولايات المتحدة إلى حجمها الطبيعي، بما يناسب وزنها الدولي اللاحق، وتحت ضغط الدخول الروسي الصيني إلى القارة.
لكن هذا الافتراض لا ينفي النوايا الأمريكية في خلق أدوات هيمنة جديدة اعتادت على إنتاجها، كفتح الحدود الكوبية للشركات متعددة الجنسيات. وهنا، يمكن الإشارة إلى بعض التصريحات الأمريكية التي لم ترقَ، وحتى ولو في إطار إعلان النوايا، إلى طرح مجالات تعاون، كان الروس والصينيون قد جالوا بها القارة بأكملها، حيث أعلنت واشنطن عن نواياها في رفع بعض العقوبات المفروضة على القطاع المالي الكوبي، والسماح للشركات والأفراد الأمريكيين بالتقدم، للحصول على تصاريح لتنفيذ مشروعات مع كوبيين يقيمون خارج كوبا.
من هنا، يمكن القول أن إعادة بناء علاقات كوبية- أمريكية على أسس جديدة، سيكون محكوماً بمعطيات العالم الجديد، وبمنطق المصلحة المشتركة التي تربط أمريكا الجنوبية أولاً بالقطب الصاعد عالمياً، مما شأنه أن يفرض قيوداً أمام خطط النهب الغربي وشركاته «متعددة الجنسية».