العراق بين فكِّي أمريكا: «داعش» أو «المصالحة» المشبوهة
وصل رئيس الأركان الأمريكي، مارتن ديمبسي، إلى بغداد في زيارة مفاجئة، حذَّر خلالها أن سرعة حسم معركة تكريت سيفضي إلى تفكك التحالف الدولي، وأن المعركة ضد «داعش» تتطلب ثلاث سنوات، على أقل تقدير!
توِّج التصريح بغارتين جويتين أمريكيتين ضد منتسبي «اللواء 50» التابع إلى «الفرقة 14» في بيجي والأنبار، ما أدى إلى استشهاد عشرات الجنود العراقيين. على الأثر، أعلن وزير الداخلية العراقي، محمد الغبان، إيقاف عمليات تحرير تكريت، معللاً ذلك بـ«تحصُّن داعش وسط مناطق سكنية»، بعد أن أجمعت الإعلانات الرسمية، العسكرية والحكومية، على أن ساعات أو أيام قليلة تفصل القوات العراقية عن تحرير تكريت، ليأتي إعلان الغبان وسط تململ شعبي رافض لإيقاف المعركة، وتصريحات من داخل «الحشد الشعبي» والعشائر العراقية تؤكد نيتها التقدم نحو مجمع القصور الرئاسية، المعقل الأخير لـ«داعش» في تكريت.
خلافات بينية ونظرة عن قرب
إن عدداً من الفصائل والقوى العراقية التي سبق لها أن شاركت «داعش» في احتلال المدن العراقية واختلفت معها لاحقاً، هي اليوم إما تقاتل «داعش» كما جرى في الضلوعية والحقلانية وحديثة (المعارك التي جرت للحفاظ على مناطق النفوذ)، أو تقف على الحياد في القتال الدائر. أما الفصيل الأساسي الذي ما يزال يقاتل إلى جانب «داعش» فهو النقشبندية- عزة الدوري - مع العلم أن تعداد مقاتلي «داعش» يتكون بنسبة كبيرة من الفصائل المسلحة المشكلة من منتسبي الأجهزة الأمنية و«فدائيو صدام» والحرس الجمهوري المنحل، إضافة بقايا إلى الجيش العراقي السابق، حيث يقدَّر تعدادهم بـ120000 عنصر.
في المقابل، يتكون «الحشد الشعبي» من فصائل مسلحة تابعة إلى لعلي السيستاني، وهي القوة المسلحة تسليحاً جيداً، مثل «قوات بدر» و«كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، فضلاً عن مجاميع صغيرة مثل قوات «أبو الفضل العباس» و«رساليون»، وتضم جميعها بحدود 50 ألف مقاتل، كذلك، فإن هناك الفصائل المسلحة التي التحقت بها لقتال «داعش»، لكن بشكل مستقل عنها عسكرياً ومالياً، وهي المُشكلة من العشائر المتضررة من «داعش»، وبشكل خاص «الجبور» و«البوفهد» و«البونمر» وتضم 30 ألف مقاتل، وهي تعمل تحت سلطة «الحزب الإسلامي العراقي» بشكل غير مباشر، وبإدارة مالية وتسليحية مباشرة من رئيس مجلس النواب، سليم الجبوري.
في الأسابيع الأخيرة، جرى الاتفاق على تخصيص ميزانية مالية تمهيداً لعملية «المصالحة» في طبعتها الجديدة- القديمة، والتي أطلق عليها تسمية «إعلان بغداد للمصالحة: إدانة الدكتاتورية والتكفير وحرمة الدم»، وجوهر ذلك الإعلان، أنه يتحدث عن كل شيء، ليبق كل شيء على حاله، بل ويزيده سوءاً! سواء من حيث الحفاظ على طبيعة نظام المحاصصة الطائفية، أو من حيث الإمعان بتقسيم الشعب العراقي، عبر الإصرار على «فيدرالية» بايدن التقسيمية، وتشكيل مليشيات للمدن تحت مسمى الحرس الوطني، والاستمرار بالتبعية للغازي الأمريكي، صانع «داعش». إذ يهدف مشروع «المصالحة» الجديد- القديم، إلى المزاوجة بين خياري نظام المحاصصة والدكتاتورية، على حساب الشعب العراقي وتضحياته الجسيمة، وسيعرِّض الوطن لمخاطر لا حدود لها.
الصفقة والسيناريوهات المتوقعة
إن القضية الغامضة، التي أدت إلى انفجار الصراع بين «داعش» والفصائل العراقية المتحالفة معه، هي قيام التنظيم باعتقال قيادات عزة الدوري (أكثر من أربعين عنصراً) لمنع استمرار تنفيذ الخطة المتفق عليها في عمان، والقاضية بالتوجه إلى بغداد واقتحام المنطقة الخضراء بمساعدة القوة المهيئة الموجودة في حزام بغداد، وإدارة «داعش» لوجهة المعركة باتجاه أربيل، وتفسر ذلك الصفقة المعمول على إنجازها (بقبول من الأطراف المتنافسة على السلطة) والتي ستكرر سيناريو اختفاء «القاعدة» من العراق عام 2007 بشكلٍ مفاجئ، فتختفي «داعش» من الموصل ربما وتتوجه نحو سورية.
من النتائج المتوقعة للـ«مصالحة» هو بروز قوى من داخل ما يسمى بـ«البيت الشيعي» لتطهره من «المشاغبين»، وسيجري اصطفاف جديد في ما يسمى بـ«البيت السني» لصالح قوى «معتدلة» تقبل بحصتها في السلطة دون «مشاغبات» مستمرة، وينطبق الأمر ذاته على ما يسمى بـ«البيت الكردي» لصالح الحد من دور الزعامات المتطرفة المهددة بالانفصال. كما يجري تأهيل بقايا جماعات قومية عربية بما فيها قيادات بعثية قديمة، برعاية إياد علاوي لتشكيل تيار سياسي قومي عربي يحلُّ «معضلة» حظر العمل باسم «البعث»، سيطلق عليه تسمية «الاتحاد الديمقراطي العربي».
لا يمكن بطبيعة الحال، عزل ما يجري تحت الطاولة وفوقها عراقياً، عن الأزمة السورية والملف النووي الإيراني والدور الروسي المتنامي دولياً، حيث أن التراجع الإجباري الجاري لهيمنة الإمبريالية الأمريكية على القرار الدولي- نتيجة الأزمة الشاملة التي تعانيها الإمبريالية الأمريكية- تقسِّم الإدارة الأمريكية إلى معسكرين، معسكر فاشي يحمل خيار الحرب وتقسيم بلدان المنطقة ونهب ثرواتها، والمعسكر «العقلاني» الداعم لصفقة المصالحة هذه، والهادف إلى تحقيق الهدف ذاته - نهب الثروات واستعباد الشعوب- ولكن بطرق وبمراحل أخرى اعتماداً على الأتباع مع تكثيف التواجد العسكري في المنطقة كقوة ضاغطة وضاربة عند الضرورة.
إن «إعلان بغداد للمصالحة» يتجاهل أهم إرادة، هي إرادة الشعب العراقي، التي تمثل وسيلته المجربة في انتزاع حقوقه المغتصبة على يد نظام المحاصصة الفاسد، سواء بطبعته الراهنة أو بنسخته الجديدة التي يُعد لإصدارها.
* منسق التيار اليساري الوطني العراقي