جيل التحدي والاستشهاد يتصدر المواجهة
ما بين اختطاف وحرق الفتى محمد أبو خضير في تموز/ يوليو، وتعذيب سائق الحافلة، يوسف الراموني، وشنقه في تشرين الثاني/نوفمبر،أربعة أشهر ونيف من المواجهات المتصاعدة في مدينة القدس وجوارها، والمرتبطة بزيادة جرائم الغزاة وحكومتهم الفاشية.
لقد تحولت الدماء التي نزفتها أجساد الشباب الفلسطيني- في أكثر من مكان على امتداد مساحة الوطن المنكوب باحتلالي 1948 و1967- إلى لهيب بدأ بالانتشار إلى مناطق عديدة داخل فلسطين المحتلة.
احتلال وإرهاب وتنكيل مستمر
في متابعة سريعة لما تنشره صحف العدو عن أجواء التصعيد التي تلجأ لها حكومة المستعمرين ضد الفلسطينيين، يمكن الإشارة لما كتبه الصحفي الصهيوني،يوسي ميلمان، في صحيفة «معاريف» 19/11: «في 2009، قتل في عمليات الإرهاب (المقاومة) 51 إسرائيلياً. في 2010 قتل تسعة، وفي 2011 قتل 22، وفي 2012 قتل عشرة، وفي 2013 قتل ستة. أما هذه السنة فقتل حتى الآن 61، منهم 21 في الأشهر الأربعة الأخيرة».
كما أن أكثر من 60 حالة اعتداء عنصري ضد الفلسطينيين في مدينة القدس ومحيطها سُجلت منذ شهر تموز/يوليو وحتى كتابة هذا المقال. الاعتداءات التي تقوم بها قوات الجيش والبوليس وميليشيات المستعمرين «المدنية غير الرسمية» من عناصر عسكرية أنهت خدماتها بجيش الاحتلال، أو من أعضاء عصابات «أمناء الهيكل» و«دفع/جباية الثمن» داخل المسجد الأقصى، ترافقت في الأسابيع الأخيرة مع حملات شبه يومية لقادة الأحزاب والعديد من النواب والحاخامات لاقتحام ساحات المسجد والإساءة لقدسيته، مما فجرغضباً شعبياً واسعاً، ساعدت على تعميقه وتناميه، قرارات التوسع في بناء الوحدات السكنية في المستعمرات فوق الأراضي المصادرة، وسياسة هدم البيوت وقطع الأشجار. وقد أدى هذا التصعيد، لاندفاع المئات من الشباب لساحة المواجهات والتصدي لعربدة قطعان المستعمرين.
دير ياسين متوهجة في الوجدان
جاءت العملية البطولية التي قام بها عدي وغسان أبو جمل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سياق خطة المواجهة المستمرة التي ينفذها الفصيل/ الحزب المقاوم، ضد المحتلين. توقيت التنفيذ جاء بعد ساعات قليلة على تعذيب وشنق المواطن المقدسي، يوسف الراموني، على أيدي عصابات القتل الصهيونية، ليعطي لها صفات «استثنائية». لكن نوعية هذه العملية، في ظل الظروف الأمنية المعقدة التي تعيشها المدينة، هو الذي يضعها في موقع العمل الإستثنائي/ النوعي.
لأن اختيار الهدف في حي «هارنوف» المقام على أراضي قرية دير ياسين التي ارتكبت بها عصابات «الإرغون وشتيرن»، وبدعم كامل من عصابة «الهاجاناه»، مذبحة وحشية في شهر نيسان/ أبريل عام 1948، ذهب ضحيتها 260 من سكان القرية العزل، والبالغ تعدادهم الإجمالي 400 نسمة، يحمل دلالة ذات معنى وطني.
كما أن الرصد الدقيق والمباشر، بما وفره من معرفة بتفاصيل المدرسة الدينية المعروفة بـ«توراة موسى» المشرفة على إدارة الكنيس وتوفير السلاح الناري والأبيض، تتطلب جميعها فترة طويلة، وليست عدة ساعات. وهو مايؤكد على أن العملية لم تكن ردة فعل، بمقدار ما هي فعل ثوري، مدروس، أكدته سرعة التنفيذ (7 دقائق)، والخسائر الجسيمة/ النوعية التي لحقت بالحاخامات.
رعب وتخبط داخل الكيان/ الثكنة
أصابت نتائج العملية حكومة العدو والتجمع الاستعماري الاحتلالي بصدمة هائلة، وجدت تعبيراتها المباشرة على أكثر من صعيد، من أبرزها:
1. أسقطت العملية قدرة وسمعة «الشاباك» والأجهزة الأمنية الأخرى في الوحل، وأكدت أن المزيد من الاعتقال، وهو ماقامت- وتقوم- به تلك الأجهزة القمعية من ملاحقة واعتقال العشرات من أعضاء الجبهة خلال الأشهر السابقة، كخطوة استباقية لمنع تطور العنف الثوري لمستويات المقاومة المسلحة من خلال إبتكار أشكال تنظيمية تفرضها مراحل المواجهة المفتوحة، البالغة التعقيد والسرية، كأسلوب التنظيم الخيطي أو عنقود العنب. لم يمنع كل ذلك الاضطهاد والعسف من إنهاء التنظيم، بل، وفر له، بيئة مجتمعية عملت على رفده بالعشرات من أبناء الجيل الجديد، لما يملكه هذا الفصيل المقاوم من تجربة سياسية وكفاحية امتدت على عدة عقود- ومازالت- أثمرت مواقف وعمليات تعيد التأكيد على/ والتشبث بالثوابت الوطنية والقومية والأممية، وهو ماوفر لهذا الجيل، البيئة والإطار والنهج، الذي يجد في العنف الثوري المنظم والمسلح، الوسيلة الأهم والأكثر جدوى في إلحاق الخسائر المباشرة (مادية ومعنوية) بالعدو، والإقتراب أكثر فأكثر من تحقيق أهداف شعبنا.
2. أعادت تفجير الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، وبين الأحزاب الصهيونية والحكومة. نتنياهو، الذي تسعى كل الأطراف لتحميله سقوط هذا العدد من القتلى في صفوف المستعمرين خلال الأشهر الأخيرة، كان الأكثر استهدافاً، ليس لسياسة الكذب التي ينتهجها- كما قال أكثر من زعيم حزبي صهيوني- بل لعدم تقديره للموقف.
لكن اللافت كان اصطفاف نتنياهو وبينيت وليبرمان في توصيف رئيس السلطة. حيث قال نتنياهو: «لأسفي أبو مازن ليس شريكاً، بل العكس فقد عاد ليثبت كم هو عديم المسؤولية. فبدلاً من تهدئة الخواطر، يشعلها. وبدلاً من تربية شعبه على السلام، يربيه على العمليات». بينيت، يتابع: «عباس أحد كبار الإرهابيين الذين أخرجهم الشعب الفلسطيني». ليبرمان يضيف: «أبو مازن يحوِّل، عن قصد، النزاع إلى نزاع ديني».
لكن مداخلة المسؤول الأول عن العمل الاستخباراتي/ العملياتي، يورام كوهين، رئيس جهازالمخابرات «الشاباك»، أمام الكنيست، كشفت عن حجم التلفيق في كلام قادة الإئتلاف الحكومي. يقول كوهين: «أبو مازن غير معني بالإرهاب ولا يقود الإرهاب، ولا حتى من تحت الطاولة». هذا التوضيح للموقف أشار مجدداً إلى الوضع المأزوم الذي يعيشه الكيان، حكومة ومؤسسات، مما دفع بنتنياهو للدعوة بالإسراع لتشكيل حكومة وحدة وطنية تقود البلاد. لكن هذه المبادرة الإنقاذية من رئيس الحكومة، لم تجد آذاناً صاغية من عدة أحزاب، بل رفضها على الفور قادة «العمل وميرتس».
3. أطلقت العنان، لقوى فاشية، سياسية ودينية، لتعمل على ممارسة عنصريتها وكراهيتها للعرب، من خلال توسيع عمليات الاعتداء على المواطنين وعلى بيوتهم وممتلكاتهم، وهو ما يحصل الآن، وسيتصاعد في الأيام المقبلة.
4. الصدمة التي هزت القيادة العسكرية والبوليسية من نجاح العملية وعدد القتلى وأهميتهم داخل التجمع الاستعماري، دفعت بالعديد من المسؤولين للتهديد بتصفية قيادات الجبهة داخل وخارج الكيان، بل أن «بينت» زعيم حزب «البيت اليهودي»، طالب باجتياح عسكري للأحياء العربية تحت دعاوي استئصال «الإرهاب».
لغة التهديد العلنية كانت بسبب ما ترسخه الجبهة الشعبية، كفصيل/ حزب مقاتل، وطني وقومي وأممي ذي أيديولوجية اشتراكية ثورية، من أفكار ومفاهيم وثقافة وطنية ذات مضمون تحرري في مواجهة الغزو الإمبريالي/الصهيوني.
إن طبيعة المعركة التحررية الوطنية تبين أنها قادرة على استيعاب كل الأفكار والاتجاهات التي تعمل على وحدة المجتمع بكل أحزابه وأفكاره لمواجهة الغزاة. وإن هذا الفكر/النهج هو الذي سيعمل على تعرية وإسقاط ما يعمل على تسويقه أكثر من طرف لجعل الصراع في فلسطين وعموم المنطقة يأخذ منحىً «دينياً» بما يتلاءم مع ما تحاول تعميمه قوى الإمبريالية العالمية وأدواتها المحلية في أكثر من دولة عربية، لتأسيس إمارات دينية تكون فيها «الدولة اليهودية» المركز، والإمارات الدينية بكل مسمياتها، الأطراف.
ارتدادات العملية إقليمياً
لم يكن مفاجئاً تنديد «مؤسسة الرئاسة» بالعملية، فقد كان متساوقاً مع مواقفها المعلنة منذ سنوات. لكن المفاجىء كان «نعيق» وزير خارجية البحرين الذي ألصق صفة الإرهاب بالبطلين، ونعت القتلى بالأبرياء. لكن شعبنا في العديد من مناطق تجمعه، وزَّع الحلوى، فرحاً وشموخاً. وأبناء أمتنا في أكثرمن عاصمة وبلدة تبادلوا التهاني. وحدها تلك العروش والقصور وأدوات التفتيت والتبعية، كانت تبعث بتعازيها لحكومة القتلة في فلسطين المحتلة.
خلاصة
للشهداء، عدي وغسان والشلودي والعكاري، والآلاف الذين سبقوهم أو ينتظرون، كل الفخر والمجد. فبإرادة المقاومة والوعي والسلاح والتضحيات، تنتزع الحقوق. فالحرية تؤخذ بقوة المقاومين ولا تستجدى بتوسلات الضعفاء.