نفخ أوباما في عضلات الناتو لا يخيف موسكو

نفخ أوباما في عضلات الناتو لا يخيف موسكو

بعيداً عن أي ضجيج إعلامي، أقر بعض الاستراتيجيين الأمريكيين أن الهدف الأبعد للاستراتيجية الأمريكية لا يتمثل في «محاصرة روسيا على حدودها ونشر بضعة صواريخ هناك» رغم أهمية ذلك المعنوية والسياسية، بل يتجاوزه لإنهاكها «للحيلولة دون بروز عالم متعدد الاقطاب». في هذا السياق، حذر وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر بلاده، في شهر تموز الماضي، من مفاقمة الأزمة الأوكرانية والمضي في تحريضها الإعلامي «لشيطنة (الرئيس) فلاديمير بوتين»، مطالباً صناع القرار بالجلوس مع روسيا لطاولة المفاوضات (مقالة مطولة في صحيفة واشنطن بوست). أيضاً السفير الأمريكي الأسبق لدى موسكو، جاك ماتلوك، حث الشعب الأمريكي محذراً من «عدم تفهم المصالح الروسية».

 وإمعاناً في توضيح مسؤولية الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص، أنّب نائب وزير الخارجية الأسبق والسفير الأمريكي لدى حلف الناتو، نيكولاس بيرنز، حلفاءه الأوروبيين «لإضاعتهم فرصة تعزيز إجراءات المقاطعة ضد روسيا»، ووبخهم قائلاً: «يؤسفني القول إن (الرئيس) بوتين تفوق ببراعة على (حلف) الناتو» لإبقائه باب الحوار مفتوحاً، خاصة مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل.

العدد الأخير من فصلية «فورين افيرز» الرصينة، تصدرته دراسة للأكاديمي المخضرم جون ميرشايمر يؤكد فيها أن «الأزمة الأوكرانية هي من صنع الغرب.. الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الأوروبيين يتحملون القسط الأوفر من مسؤولية الأزمة». بعبارة أخرى، شهد شاهد من أهلها أن «حلف الناتو هو الطرف المعتدي» في الحالة الأوكرانية.

بعض أوروبا يتباعد عن أميركا

حرص الرئيس أوباما على المشاركة شخصياً في قمة دول حلف الناتو الأخيرة، وأتبع ذلك بالإعلان عن زيارة يخصصها لدولة أستونيا في بحر البلطيق والتزامه بإرسال طائرات عسكرية للتحليق في أجواء دول البلطيق الثلاثة: ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا؛ وذلك إمعاناً منه في ممارسة سياسة استعراض القوة مع الرئيس الروسي بوتين، وإرساء سقف سياسي للحوار المرتقب بتوسيع نطاق الحلف ليتمدد قريباً من الأراضي الروسية، وفي محاولة مدروسة من مساعديه للرد على سيل الانتقادات لضعف قيادته في إدارة الشؤون الخارجية.

انفض لقاء قمة الناتو دون توصلها لبيان صريح وواضح بتوفير الدعم العسكري لأوكرانيا، كما كانت قد روجت حكومة كييف الموالية لواشنطن، واكتفى الحلف بالتأكيد على حق أوكرانيا باسترداد كامل سيادتها على أراضيها. وسرعان ما أُعلن عن توصل الحكومة الأوكرانية والقوى المعارضة شرقي البلاد إلى وقف لإطلاق النار. في هذا الصدد أجمع المراقبون للتطورات الأوكرانية على أن حكومة كييف تلقت هزيمة كبيرة وستضطر لقبول كامل شروط خصومها، أو معظمها، المطالبين بصيغة سياسية كونفدرالية توفر لمناطقهم مساحة أوسع من الحكم الذاتي.

يذكر أن المفكر الاستراتيجي الراحل، جورج كينان، وآخرين حذروا صناع القرار مبكراً من مغبة توسيع حلف الناتو طمعاً في محاصرة روسيا، بيد أن التحذيرات ذهبت أدراج رياح الليبراليين والمحافظين الجدد، على السواء، الذين ليس بوسعهم التغافل عن أن استراتيجيتهم «أسفرت عن إطلاق صيحات بضمان الأمن لدول معظمها لا يقوى على حماية نفسه وستشكل عائقاً أكبر للحلف في سعيه لنجدتها» من تهديد روسي محقق.

 صوبت يومية «فورين بوليسي» سهام انتقاداتها على تلك المجموعة المتجانسة من «الليبراليين الجدد المحيطة بالرئيس أوباما وتدفعه لاتخاذ قرارات مغامرة» على شاكلة الإمبراطورية البريطانية التي اتخذت «قراراتها الحمقاء في غفلة من الزمن باستنادهم الى فرضية أن الضمانات المتعددة التي يعد بها الحلف لن ترى النور أبداً».

أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا!

طالبت أمريكا دول الحلف مجدداً بزيادة معدلات ميزانياتها العسكرية والبدء في شراء المقاتلات الأمريكية الحديثة، من طراز اف-35-ايه، ونموذجها القادر على حمل السلاح النووي تحديداً. كما تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة تثبيت قيمة أسلحتها النووية «التكتيكية»، التي تقدر بنحو 180 رأس نووي، مخزنة في خمس دول أوروبية: بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا.

وفي التفاصيل، أعربت المانيا عن نيتها شراء المقاتلة بنسختها التقليدية خالية من التجهيزات والأسلحة النووية، لأنها «لا ترى حاجة ماسة لتلك الأسلحة، فضلاً عن غياب الحماس لتحمل كلفتها الباهظة». وثائق حلف الناتو تشير بوضوح إلى إسراف الدول الأوروبية في الإنفاق على التسلح بمعدل «يفوق أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا سنوياً»، وتتعرض لضغوطات شعبية واقتصادية لتخفيض الميزانيات العسكرية؛ وعلى الطرف الآخر تتعرض لضغوط أمريكية مغايرة لزيادة معدلات الإنفاق وهي حائرة بين الخيارين يفاقم حيرتها الأوضاع الاقتصادية المتردية في معظم الدول وبعضها شارف على الإفلاس.

إغراءات أمريكية في الزمن الضائع

روجت أمريكا لتبني قمة الناتو إعلانها المسبق بتشكيل قوة عسكرية للتدخل السريع، قوامها لواء مسلح،  باستطاعته الانتشار والتمركز خلال 48 ساعة، أما عن ترسانة تسليحه فسيتم تخزين الأسلحة الثقيلة في دول «أوروبا الشرقية» ووضعها تحت تصرفه التام.

وأوضح الأمين العام لحلف الناتو، اندرز فوغ راسموسن، نوايا المؤسسة بزيادة معدل البعد العسكري في مهامه بالقول إن الحلف يواجه تحديات متعددة «.. روسيا تتدخل بشكل سافر في أوكرانيا.. أزمات متعددة قد تنشب دون سابق إنذار، والتحرك بسرعة فائقة يترك تداعياته على أمننا الجماعي بطرق شتى، لذلك سنبلور قوة رأس حربة من ضمن قوة التدخل، مما يستدعي إقامة منشآت معينة في أراضي الحلف، وتخزين معدات ولوازم مسبقاً، ووضع خبراء في شؤون القيادة والتحكم والأعمال اللوجستية تحت تصرف تلك القوة..»

درس من التاريخ

بناء على ما تقدم، يبرز سؤال حول إن كان باستطاعة القوات الحديثة للحلف تشكيل قوة ردع حقيقية يحسب لها حساب من قبل روسيا... الإجابة قد تقود المرء وقادة الحلف إلى إعادة النظر بأحداث التاريخ القريب التي جرت على أراضي بلجيكا وهولندا قبل نحو 70 عاماً في مثل هذه الأيام. آنذاك، شاركت قوة التدخل السريع للحلفاء في عملية تعتبر الأكبر حجماً بين عمليات القوات المحمولة جواً هي عملية «ماركت غاردن»، وذلك في الفترة الممتدة من 17 إلى 25 أيلول 1944. كانت نتيجتها مأساوية إذ تعرضت الفرقة الجوية البريطانية الأولى المتمركزة في مدينة إرنام الهولندية لإبادة شبه تامة.

يدرك القادة العسكريون، القدامى والحاليون، القدرة المحدودة لقوات التدخل السريع لتنفيذ مهامها انطلاقاً من طبيعة تشكيلها وتسليحها كقوة مشاة خفيفة الحركة، عادة ما يتم إنزالها في مواقعها جواً. الميزة الأولى التي تتحلى بها تلك القوات هي برامج التدريب والتأهيل المكثفة التي تتفوق على ما يوازيها لدى القوات البرية العادية.

في ذلك الزمن القريب، أوكلت الفرقة 82 المحمولة جواً مهمة السيطرة على جسر نيميغن في مدينة هولندية بذات الاسم، تقع على ضفاف نهر فال المتفرع من نهر الراين، عام 1944. وفشلت الفرقة في مهمتها على يد وحدة من المدرعات الألمانية، ولم تستطع التقدم إلى أبعد من 400 متر من الجسر إلا بعد مضي بضعة أيام بدعمٍ من القوات البرية التابعة للفيلق 30، بعدما تكبدت خسائر كبيرة.

أشّرت عملية «ماركت غاردن» على عدد من الثغرات، آنذاك، والتي تجد صدى لها في الآونة الراهنة، أهمها عدم تناسق التوجيهات والاتصالات بين مجموعة غير متجانسة في اللغة والعادات، مع العلم أن القوات الأمريكية والبريطانية على جسر نيميغن كانت تتكلم اللغة الإنكليزية المشتركة، فما بالك إن تعددت اللغات المتداولة كما هي حال حلف الناتو، لا سيما مع دول أوروبا الشرقية. باستطاعة قوات التدخل السريع للحلف القتال وصد هجوم روسي محتمل، لبضعة أيام، بيد أنها ستواجه مخاطر نفاذ ذخيرتها وإمداداتها. ولعل الأهم، ما ينتظر القوات الرديفة والتعزيزات المتعددة من مهام أشد تعقيداً من القوات الخاصة في المسرح الميداني.

إنّ قوة حلف الناتو الموعودة ربما تجد مآلها في البعد السياسي كرسالة تطمين لأعضاء الحلف أكثر مما هي قوة حقيقية باستطاعتها تنفيذ مهام ذات طبيعة عسكرية ضمن سياق خسائر محسوبة تستطيع تعويضها. سيد الكرملين وقادته العسكريون يدركون ذلك دون ريب. وقد يتريث قليلاً لإعادة النظر بقوات حلف الناتو، لكن من المرجح أن يمضي قدماً في مواجهاته دون حسابات تلجمه لتحقيق استراتيجية بلاده.

المصدر: مركز الدراسات الأمريكية والعربية- بتصرف