الشعب يريد تحرير فلسطين
أحيا الفلسطينيون ذكرى احتلال وطنهم ونكبتهم هذا العام، بفعاليات، تجاوزت الأشكال التقليدية- الخطابات والمهرجانات- المعتادة في مثل هذه المناسبات، خاصة في مناطق اللجوء. لأن الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية، قرر أن تكون النشاطات الشعبية الفلسطينية، متناغمة مع الحراك الواسع الذي أحدثته نضالات أبناء الأمة في أكثر من قطر، داخل ذات الفضاء، الذي تنفست فيه الجماهير العربية، نسيم الحرية، واستطاعت بتضحيات كبيرة، أن تسترد كرامتها الوطنية/ الإنسانية من قبضات عصابات الفساد والنهب العام والتبعية للعدو الإمبريالي/ الصهيوني.
استطاع الشعب العربي الفلسطيني في تحضيراته لإحياء هذه الذكرى، أن يؤكد على أهمية النضال من أجل تحقيق أهدافه الوطنية العامة، من خلال العمل على إعادة التشديد على أن الاحتلال لوطنه عام 1948 هو جذر كل الكوارث التي لحقت بأبنائه «المذابح والتطهير العرقي، التهجير واللجوء، مصادرة الأراضي، مسح أكثر من خمسمائة مدينة وبلدة عن الوجود، إصدار قوانين عنصرية/ فاشية للتعامل مع أصحاب الأرض الذين تشبثوا بوطنهم ووجودهم». ولهذا أحيا أبناء شعبنا هذه الذكرى «النكبة» في مواجهة احتفالات المحتلين المستعمرين بيوم «الاستقلال» بمزيد من الإصرار على التمسك بحقوقهم، كما أعلنتها مهرجانات ومظاهرات أهلنا داخل الجزء المحتل منذ عام 1948، وفي عملية الدهس التي نفذها أحد أبناء بلدة «كفر قاسم» بسيارته في أحد شوارع مدينة تل الربيع «تل أبيب»، مما أدى لقتل وإصابة العديد من الغزاة الصهاينة.
داخل الضفة الفلسطينية وغزة وبلدان اللجوء والمنافي، تركز الحراك الشعبي الواسع على شعار واحد وهدف محدد، صدحت به حناجر مئات الآلاف وهي تردد «الشعب يريد العودة لفلسطين... الشعب يريد تحرير فلسطين». في المواجهات الأولى التي أحيا فيها أبناء الشعب الفلسطيني هذه الذكرى، سقط الشهيد الأول «ميلاد عياش» في محيط مدينة القدس المحتلة، بالرصاص الصهيوني. ولتتزامن معها حمى المواجهات داخل المدن والقرى في الضفة، وعلى حدود قطاع غزة المتاخمة للأراضي المحتلة منذ عام 1948. ولتشهد المعابر العسكرية الصهيونية أعنف الاشتباكات، التي ترافقت مع وحشية القمع الذي حال دون وصول الفلسطينيين لداخل الوطن. سقط الشهداء في غزة، وسالت دماء المئات من الجرحى في الضفة والقطاع الصامد. واعتقلت قوات المستعربين الفاشية عشرات الشباب في أكثر من منطقة بالضفة الفلسطينية المحتلة.
لكن الحدث الأبرز كان على حدود التماس في جنوب لبنان والجولان المحتل. عشرات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين تجمعوا قرب الحدود، لتشهد بلدة «مارون الراس» الواقعة على تخوم الجليل المحتل، بدلالتها الرمزية- صمود مقاتليها الأسطوري أثناء عدوان 2006- عنفوان التحدي العربي في مواجهة رصاص المحتلين. سقط أحد عشر شهيداً والمئات من الجرحى، في أثناء تصدي جيش الكيان الغاصب لعشرات الآلاف المتجهين نحو فلسطين.
على مشارف الجولان المحتل، تجمع أكثر من أربعة آلاف مواطن فلسطيني مع إخوانهم السوريين، في إطلالة على الأفق البعيد، على الوطن المحتل. لم تستطع تلك الجموع أن تكتفي برؤية الأرض، بل اندفع المئات منهم نحو الجولان، غير عابئين بالألغام المزروعة والأسلاك الشائكة، التي أدمت أجساد العشرات منهم. لم يكتف شباب هذا الجيل الغاضب، التواق للحرية والكرامة، بأن يدق الجدران- كما قال شهيد الأمة، الأديب غسان كنفاني- بل حطم الحدود، بجدرانها وأسلاكها، كما كتب أحد الصهاينة في مقال عنوانه «لم يبق حدود». سقط ثلاثة شهداء في «تسونامي العودة»- العدد مرشح للزيادة نتيجة خطورة إصابات بعض الجرحى. وسيكتب التاريخ في صفحات مضيئة عن الاستبسال الاستثنائي الذي سطره أولئك الشبان، الشهداء والأحياء، الذين واجهوا الجيش المدجج بالسلاح، واستطاعوا معانقة إخوانهم في «مجدل شمس» المتألقة في شموخها القومي والوطني.
إن دلالات هذا الحراك الشعبي الواسع، بمضامينه وأهدافه، ستشكل علامة بارزة في مسار الكفاح الوطني الفلسطيني، خاصة في ظل التطورات التي تعيشها القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية. ويمكن قراءة أبرز هذه الدلالات:
*أكدت الشعارات التي رفعها المبادرون والمنضوون في هذه الاندفاعات الشعبية، أن الوطن لديهم هو فلسطين، كل فلسطين. وأن العودة للوطن، تعني وبالتحديد، أن تكون إلى مدن وبلدات وقرى الآباء والأجداد. وهي بهذا المضمون، نقيض ما تحدث به «محمود عباس» يوم السبت 14/5 قبل ساعات من سقوط الشهداء، خلال لقائه المشاركين في مؤتمر الملتقى التربوي الثقافي الفلسطيني الرابع المنعقد في رام الله المحتلة، «القيادة الفلسطينية لن تفرط أبداً بحق العودة، وذلك من خلال القيام بالخطوات العملية، والعودة إلى أرض الوطن لإنهاء حياة الشتات، لأن الوطن هو وجهتنا الأخيرة»، مضيفاً «العودة ممارسة وليست شعاراً، ففلسطين لنا، ومن كان من الشمال أو الوسط أو الجنوب، وسكن في أي مكان فيها، هو بالتالي في الوطن». لقد مارس الشعب الفلسطيني حقه بالعودة، وقام بواجبه من أجل تنفيذ حلمه بالوصول للوطن، كما جسده شباب العودة في انتفاضتهم المجيدة. وهذا ما حققه «حسن حجازي» الذي تمكن من دخول مجدل شمس، ومن ثم الوصول لمدينة الآباء والأجداد «يافا».
*أعادت التحركات تحديد بوصلة الاتجاه إلى فلسطين، وذلك من أجل تطوير/ تثوير برنامج العمل السياسي/ الكفاحي للقوى السياسية والمجتمعية. وهي بهذا المضمون أعادت الاعتبار لنهج التحرير، الذي يحاول البعض الالتفاف عليه، من خلال القبول بدولة بالضفة والقطاع والقدس الشرقية- التبشير بالأوهام والسراب- عن طريق المفاوضات، والتكرار لمصطلحات خادعة ومضللة كما في مقولة «جناحي الوطن... الضفة والقطاع».
*كشفت أجساد الشباب الدامية، التي تخطت الأسلاك وعربات الجنود، هشاشة البنى الاستخبارية العسكرية لدى العدو، ودرجة الإرباك التي تسود صفوف مؤسساته. وهذا ماعبّر عنه «يوسي يهوشع» في مقال بصحيفة يديعوت أحرنوت في اليوم الثاني 16/5 بقوله «أسقطوا مئات أمتار السياج وتسللوا إلى إسرائيل دون عراقيل. كان يكفي للمرء أن يرى أمس في مجدل شمس ضباط الاستخبارات الذين تجولوا مطأطئي الرأس كي يفهم حجم القصور».
*أعادت التحركات التي شهدتها الأقطار العربية «المغرب، تونس والبحرين» ودول الطوق، قومية المواجهة مع العدو، بتأكيدها على مركزية القضية الفلسطينية لدى الجماهير العربية التي تحركت نحو الحدود المصرية الفلسطينية، والتي تتجمع كل يوم في ميدان التحرير بالقاهرة، وميادين عمان وغور الأردن في الكرامة. بالإضافة للتطورات البارزة على الحدود السورية واللبنانية المتاخمة للكيان الغاصب.
الآن، وبعد أن ووري جثمان الشهداء الثرى، ليس المطلوب فقط رعاية عائلاتهم، ومعاودة الجرحى وتأمين مستلزمات علاجهم، وضمان مستقبلهم، بل إن ما فرضته نتائج الأيام الأخيرة، يتطلب وقفة نقدية، موضوعية، تستلهم الدروس من هذه التحركات، بهدف ديمومتها، والحفاظ على ديناميتها، بعيداً عن منطق المصادرة، والإنابة، والوصاية.