حول المصالحة الوطنية الفلسطينية واستحقاقات المرحلة
تأتي المصالحة الفلسطينية في سياق تصاعد الحراك الجماهيري واتساعه في المنطقة العربية، وإذا كانت المصالحة وما تزال مطلباً وطنياً ملحاً، وبالأخذ بعين الاعتبار اتفاق المصالحة بشكله الحالي والنقاشات الدائرة حوله التي مازالت محصورة بالتحضير لانتخابات السلطة التشريعية والرئاسية وتشكيل حكومة «الوحدة» الوطنية و«مصالحة» أجهزة أوسلو في غزة والضفة، وتحديدا الأمنية منها، وبالعودة إلى طابع الخلاف الذي جرى بين قيادة فتح المتمثلة بفريق أوسلو وحركة حماس- هذا الخلاف الذي لم يكن «خناقة ولاد» وإنما خلاف بين خطين متضادين على طول الخط، فإن التساؤل حول عمق هذه المصالحة وقابليتها للاستمرار تغدو مشروعة لا بل ضرورية.
للإجابة عن هذا التساؤل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار اللحظة التي جرى فيها هذا الاتفاق بالنسبة للفريقين وبالنسبة الإستراتيجيتين كلتيهما.
بالنسبة لفريق أوسلو أتى هذا الاتفاق بعد أن وصلت عملية التفاوض المهينة لأفق مسدود (رغم أن هذا الخيار مسدود الأفق تاريخياً منذ ولادته) بسبب التعنت الإسرائيلي رغم التنازلات الشهية والسخية من فريق أوسلو والتي تجاوزت كل الخطوط الحمر، وما تبعه من لجوء فريق أوسلو للضغط على الكيان وإعادته لطاولة المفاوضات مع تقديم قليل من التنازلات، من خلال نزع الاعتراف بدولة فلسطينية على أراض ٦٧، دولة فلسطينية دون أي مقومات، اعتراف دولي دون أي تغيير لملامح الاحتلال على الأرض. في هذا السياق يغدو التشكيك بصدق نوايا فريق السلطة في هذه المصالحة مشروعاً جداً إذ قد تشكل المصالحة مع حماس مجرد إحدى أدوات الضغط على الكيان الصهيوني من أجل «تزييت» تعنتها وصلفها. شرعية هذا التشكيك تزداد بعد متابعة تصريحات عباس عقب هذا الاتفاق، التي ما انفك من خلالها التأكيد على التفريط بثوابت النضال الوطني الفلسطيني، وآخرها تصريحه عشية ذكرى لنكبة، بأن العودة تتحقق عند الرجوع لأي جزء من أجزاء الوطن.
وإذا كان الخطاب الانتهازي الذي يساوي عباس، عباس الهوان والتفريط بالثوابت، بحماس غزة المحاصرة فإن هذا لا يمنع من طرح التساؤلات حول توقيت الاتفاق بالنسبة لحماس... لقد خلت الحركة سلطة أوسلو بعد انتخابات 2006 بعد أن كانت واحدة من فصائل المقاومة الأساسية والتي شكل دخولها للسلطة مأزقاً حقيقياً لها ولزخم المقاومة، فلقد عانت ومعها الشعب الفلسطيني من عملية حصار دولي ممنهجة كان ذروتها عدوان غزة وما تبعه من حصار لمعاقبة الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة على تبنيها لهذا الخيار ومحاولة تطويعهما. وهنا نجد نفسنا إزاء فرضيتين حول دوافع توقيع اتفاق المصالحة بشكله الحالي، فإما أن توقيعه من قبل حماس يشكل تكتيك من أجل تخفيف عزلتها وحصار الشعب الفلسطيني في غزة، هذا التكتيك تتحدد مدى مشروعيته بمدى الإصرار على خيار المقاومة وتحرير فلسطين، وإما تنازل عن خيار المقاومة وتحرير كل الأراضي المحتلة. وإذا كان الوضع بالمنطقة وطابع المرحلة الحالية المتسمة بنهضة الشعوب تدعونا للاعتقاد بالاحتمال الأول، فإن ما يثير القلق هو تصريحات مسؤولي حماس وتضاربها، ففي حين يعلن خالد مشعل قبول حماس إعطاء فريق أوسلو المزيد من الوقت للمضي في عملية التفاوض يخرج الزهار من غزة لينفي أن يكون هذا التصريح يمثل مواقف حماس.
حول الدور المصري
عبر الإعلام جرى التدقيق على أن العامل الحاسم بهذا الاتفاق، هو الدور المصري، وجري التدقيق على أن الاتفاق بحد ذاته هو مؤشر على انعطافة «النظام» المصري (الجديد) نحو مواقف أكثر جدية إزاء القضية الفلسطينية. إلا أن طابع الاتفاق بالإضافة إلى سلوك المجلس العسكري فيما يخص الموقف حيال الكيان الصهيوني وآخرها الدفاع المستميت عن سفارة العار، والقمع الشديد للمتظاهرين في ذكرى النكبة، هو أمر يدفعنا للاعتقاد أن الرعاية المصرية لهذا الاتفاق بالصيغة الحالية (العايمة) ليست إلا وسيلة لتنفيس ضغوط الشارع المصري من خلال تحقيق مطالب الحد الأدنى فيما يخص القضية الفلسطينية والتقاعس عن المهام الأساسية المتمثلة بإنهاء اتفاقية الذل والعار مع الكيان والانفتاح الكامل على غزة عبر رفح ووقف إمداد الغاز وتطهير ارض مصر الشريفة من دنس سفارة الكيان.
ما المطلوب؟
إذا كانت ضرورات الواقع تفرض تحقيق اتفاقات «تبويس لحى» بين خطين متناقضين ،فإن المطلوب من فصائل المقاومة التحضير للانتقال من المصالحة الشكلية في إطار سلطة أوسلو وأجهزتها، إلى تحقيق وحدة وطنية فلسطينية، ولا بد من التشديد على كلمة الوطنية في عبارة «الوحدة الوطنية». وإن معيار وطنية هذه الوحدة هو قيامها على برنامج عمل كفيل باستعادة الحقوق بالتالي برنامج وطني يعمل على استعادة دور المقاومة وفاعليتها. وهنا يجب التأكيد على أن هذه المهمة لا يمكن أن يتم انجازها من خلال «تبويس اللحى» بين قوى المقاومة وقوى الهوان المتمثلة بفريق أوسلو وإنما من خلال «كسر العظم»، كون الخلاف القائم ليس خلاف وجهات نظر أو مقاربات، وإنما هو اختلاف مصالح بين ثلة من الفاسدين الذين نهبوا أموال الثورة وترعرعوا في حضن أوسلو وارتبطت مصالحهم مع الكيان الصهيوني عضوياً، وبين أغلبية الشعب الفلسطيني الذي لم تهتز حالة الإجماع التاريخية يوماً لديه حول خيار المقاومة كخيار أساسي نحو استعادة الحقوق... وهنا يرتدي تحقيق أوسع تحالف بين فصائل المقاومة وقوى الشعب الفلسطيني أهمية كبرى لتحقيق هذه المهمة. بهذا السياق يجب فضح الخطاب الانتهازي الذي يساوي عباس بحماس، رغم كل الأخطاء التي ارتكبتها حماس منذ دخولها للسلطة إلى قمعها لفصائل المقاومة وممارساتها السلطوية في غزة، لأن هذا الخطاب من شأنه أن يساهم بتعزيز الاصطفافات الخاطئة، بدل أن يسعى لتكوين أوسع تحالف للقضاء على نهج أوسلو، فالتناقض الأساسي اليوم بين القوى الفلسطينية هو على أساس الموقف من المقاومة والثوابت الفلسطينية.
مهمة تاريخية
لا نبالغ إذ نقول بأن تحقيق هذه المهمة يشكل مسؤولية تاريخية بعنق القوى الفلسطينية تجاه المنطقة، في سياق محاولات الخارج الأمريكي والأوروبي الحثيثة امتطاء الحراك الشعبي بالمنطقة وأخذه باتجاهات تحافظ على مصالحهم لا بل تعززها، بالإضافة إلى المقاومة العالية للأنظمة التي تستمر بمحاولاتها للالتفاف على مطالب الجماهير، بالأخذ بعين الاعتبار مركزية القضية الفلسطينية وحضورها في هذه الثورات ،حيث أنها تشكل ورقة عباد الشمس ووسيلة لقياس منسوب وطنية أي نظام أو قوة سياسية، لذلك يجب الانتقال من موقع المنفعل مع هذا الحراك والمنتفع منه إلى موقع الفعل ودفعه للأمام من خلال استعادة المشروع الوطني الفلسطيني ووضع دول المحيط أمام استحقاقاتها وإقحامها بامتحانات وطنية ستسرع من عملية الفرز بين القوى الرجعية والقوى التقدمية التحررية.