من الانتفاضتين إلى الثورات العربية
قبل 24 عاماً تفجّرت انتفاضة الشعب الفلسطيني، بسبب حادث يبدو عادياً في سياق الجرائم التي اقترفها الاحتلال الصهيوني على مدى سنوات الاحتلال بعد هزيمة حزيران 67.. في الضفة الفلسطينية وقطاع غزّة.
حادثة صدم سيارة عمداً، تقل عمالاً فلسطينيين من مخيم ( جباليا)، وقتلهم، كانت الشرارة التي فجّرت غضب شعب مقهور طفح به الكيل من ظلم الاحتلال.. كانت قيامته غير متوقعة لا للعدو ولا للصديق، وحملت تلك القيامة اسم (الانتفاضة) التي باتت واحدة من أكثر المفردات انتشاراً في زمننا، كما هي بالعربيّة الفصحى.. (في) كل اللغات.
هل ما زلتم تتذكرون تلك الانتفاضة التي ملأت قلوب شعوبنا العربية بالفخر، وإن أغاظت حكام العرب الذين هلعوا من إمكانية امتداد نارها إلى حصونهم غير الحصينة.. ومع ذلك نافقوا شعب فلسطين، وكالوا له عبارات الإعجاب.. ونفحوه شيئاً من مال النفط.. و..تآمروا عليه وعلى انتفاضته.. وما زالوا (أليس هذا ما يحاكويدبّر لثورات وانتفاضات وحراكات شعوبنا العربية؟!).
بالكوفية، والحجارة، وتحدي سياسة تكسير العظام التي أمر بها الجنرال رابين، ومواجهة دبابات وآباتشي وبنادق جيش الاحتلال.. بالصدور العارية بهرت انتفاضة شعب فلسطين العالم.
تلك الروح تجلّت إبداعاً في كل مناحي الحياة، في اقتسام رغيف الخبز، في التماسك الاجتماعي والتواشج والثبات رجالاً ونساءً.. شيباً وأطفالاً.. ويا لهم من أطفال تغنى بهم الشعراء.. وكتبت قصصهم التي أبدعوها في الميادين، عاشوها، وأنجزوها بدمائهم.. فنقلتها صحافة العرب والعالم، وباتت حكايات تروى بإعجابواحترام لشعب ينجب هكذا أطفال يقتحمون الشوارع، والحياة، ويكبرون بين دوي الرصاص، وينبثقون من دخان قنابل الغاز وهم يرجمون جنود الاحتلال غير هيّابين.
في ذلك الزمن الانتفاضي نظّم الشعب نفسه، بعد أن انطلقت انتفاضته عفوية، وباتت له قيادة، وأطر، ومؤسسات انتفاضية شعبية اجتماعية، وهنا كانت عبقرية الفعل الشعبي. تلك كانت روح المبادرة التي ميّزت الانتفاضة.. الروح الجمعية التي تحولت إلى نمط حياة، وهو ما أصاب الاحتلال الصهيوني باليأس، والشعوربالإحباط، فثمة شعب يتحوّل إلى قبلة للعالم.. للشعوب المظلومة.. ينتزع من (اليهود) الصهاينة أكاذيبهم وادعاءاتهم، ومسكنتهم، وابتزازهم، ويعيد كتابة الحكاية من جديد.. فالرواية الصهيونية ملفقة، وفلسطين تتبوّأ مكانتها لتروي الحكاية كما هي، بجغرافيتها وتاريخيتها وإنسانيتها وبساطتها وصدقها.
ذكرى الانتفاضة الكبرى مرّت قبل أيّام، في الـ7 من هذا الشهر.. من عام 1987.. مرّت دون أن يحتفى بها بما يليق بها، كأنها باتت من الماضي البعيد.. وكأن تذكرها يحرج، ويؤرّق، ويفتح ملفات لا يراد لها أن تُفتح لأنها ستحيل إلى محاسبة مع النفس.. ومع المحيط.. مع الذاتي ومع الموضوعي، فالنتائج لم تكن بحجمالتضحيات.. النتائج كانت دون الطموحات والأمنيات.. كانت أقّل بكثير من قيمة وقدر الدم والدموع والسجون والاغتيالات وهدم البيوت.. أقل بكثير مما يستحقه شعب بهر الدنيا بانتفاضته.
روح الانتفاضة الانتفاضتين: الانتفاضة الكبرى الأولى.. والتي حُرفت عن مسارها، وقويضت بالوهم والسراب، وانتفاضة الأقصى التي أُريد لها أن تكون تصحيحاً.. أُفرغت من روحها، وحرفت، وأُفسدت، واخترقت.. نراها حاضرة تتجلّى هذه الأيام.. منذ نهاية العام الماضي.. وحتى يومنا.. وإلى زمن آت.. في ثورات،وانتفاضات، وحراكات شعوب أُمتنا العربية الثائرة على نُظم الحكم الفاسدة التابعة المستبدة..حتى وإن لم يشر أحد إلى هذا الحضور الانتفاضي.
ثورات العرب اندلعت بنار جسد محمد البوعزيزي.. والشعلة حملتها الأيدي و..أسقطت بن علي.. وها هو شعب تونس يعيد بناء بلده، ويصوغ مستقبله.. ويتقدم بخطا نحسب أنها ستأخذه إلى مستقبل أفضل وأجمل يستحقه.. وإن بدا الطريق إلى المستقبل.. مستقبل الديمقراطية التي هي المقدمة للحرية والعدالة الاجتماعيةوكرامة الإنسان ومواطنته.. محفوفاً بالمخاطر، فقوى الفساد والتبعية داخلاً، وقوى الخارج، الغرب الاستعماري، أمريكا تحديداً.. ومعها فرنسا وبريطانيا.. المعادية لنهوض شعوبنا لن تترك لشعوبنا العربية فسحة لتختار مستقبلها، وتبني حياة حرة كريمة.. لأن هذا سيؤدي إلى نهوض عربي شامل.. وهو ما سيعني امتلاكالعرب لوطنهم العربي الكبير، وثرواتهم المنهوبة، ووحدتهم، و..إنهاء الصراع العربي الصهيوني بتحرير فلسطين.. لأنه دون فلسطين لا وحدة عربية، ولا تواصل عربي، ولا نهوض عربي.
أحد المخاطر التي تهدد ثورات شعوبنا العربية هو الركون إلى نوايا أعداء الأمس واليوم، الذين مزقوا أمتنا، واستتبعوها، ونهبوها، واستباحوا ثرواتها، ونصبوا على رؤوسها حكاما طغاةً، وغرسوا الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي.. والذي نرى اليوم من يطالب بتدخلهم لحماية شعوب عربية تنتفض لتحقيق حقوقهاللعيش بكرامة، في أوطان تكون لها وليس لعصابات القمع والنهب والفساد!
حدث هذا من قبل عندما ارتفعت أصوات فلسطينية ترى أن أمريكا بعد أن انفردت بالهيمنة على العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ستكون عادلة ومنصفة و..ستمنح الفلسطينيين دولة مستقلة.. انظروا إلى ما فعلته أمريكا بالفلسطينيين.. وما ينتظرهم منها.. ألم تسمعوا بتصريحات غينغرتش مرشح الرئاسة الجمهوري الذيينكر وجود الشعب الفلسطيني.. مزاوداً على الصهاينة أنفسهم؟!
هذا الوهم روّج له طغاة عرب يتقدمهم مبارك المتمارض الذي لم ينل ما يستحق من عقاب.. هو وبطانته الفاسدة، ودول النفط وفي مقدمتها السعودية، و..لا ننسى دور بن علي.. وسواهم من فاسدي بلاد العرب ومفسدي الحياة فيها.
الصراع على السلطة خرّب الانتفاضتين الفلسطينيتين.. أفرغهما من روحهما الثورية، من منجزاتهما الشعبية، وغيّب حضور الشعب الفلسطيني.. وانظروا إلى أين آلت الأمور:
انقسام.. وصراع على الوهم.. في حين تضيع الأرض، وتهوّد القدس، ويتمدد الاحتلال!
ونحن نستذكر الانتفاضتين نتساءل: هل يمكن أن تسرق ثورات العرب؟ تُحرف عن مساراتها.. وأهدافها؟!
الخراب يبدأ من الداخل.. من الخطاب السياسي التضليلي، من عدم التمييز بين العدو والصديق، من الانتهازية التي تدفع بقوى سياسية لاختطاف الثورات.. ومهما كان الثمن، فهذه القوى تبرر لنفسها بانتهازية كل ما يمكنها من القفز إلى السلطة قبل نضوج الظروف، وبلوغ لحظة الانتصار التي تقطع نهائياً مع نظم حكماستفحل خطرها على مدى عقود.. فالثورات لا تنتصر بخلع رئيس، أو هرب رئيس، أو صفقة مع رئيس!
من يتحالفون مع النفط، ويغازلون الغرب الإمبريالي، ويوجهون له رسائل الطمأنة، ويتوقعون منه أن يبارك قفزهم على الثورات، والجلوس على كراسي الحكم ..ينحرفون بثورات العرب، ويؤسسون لحقبة مرعبة، وهم يضللون الشعوب العربية الثائرة بالشعارات الزائفة.
من يدعون للتدخل الخارجي، ويحللون لأعداء الأمة أن (ينقذوا) الشعوب.. ويقدموا لها الحماية لا يفعلون هذا ببراءة.. فهم مع النفط المتآمر دائما على ثورات العرب- أننسى ما فعلوه بجمال عبد الناصر ومشروعه النهضوي؟- يلتقون مع دول الغرب الاستعمارية بقيادة أمريكا الإمبريالية عدوة فلسطين والعرب!
من لا يستفيدون من دروس الانتــــفاضتين.. من لا يمــــيزون بين عدو وصديق، من يطلبون من أعداء الأمة أن يحموا ثوراتــها، من يقدمون أعداء فلسطين كمنقذين.. هـــم الخطر الداخلي الداهم على ثورات العرب.. فلنستعد دروس الانتفاضتين.. فهما تراث ثوري للأمة كلها، يجدر الانتفاع به في اللحظة الثورية الراهنةالتي بدأت تختلط فيها الأمور!