هلوسات «غينغريتش» عن شعب تم اختراعه!
التصريحات التي أدلى بها «نيوت غينغريتش» العضو البارز في الحزب الجمهوري الأمريكي، والمرشح الأوفر حظاً للفوز، بترشيح الجمهوريين، في انتخابات الرئاسة الأمريكية في العام القادم، في مقابلته الشهيرة مع محطة «جيويش تشانل» اليهودية، التي بثتها مساء يوم الجمعة، والتي تحدث فيها عن «أن الفلسطينيينهم مجموعة إرهابيين، وشعب تم اختراعه»، أثارت ردود فعل لفظية صاخبة، وعدة مواقف نقدية، لم تخرج عن الإدانة، والدعوة إلى تقديمه «الاعتذار» للشعب الفلسطيني، وعدم استقباله من رموز سلطة رام الله المحتلة عند زيارته للأراضي الفلسطينية. رغم كل تلك الزوابع التي أثارتها مقابلته التلفزيونية، أعاد غينغريتشالتأكيد على مواقفه تلك، بعد بضع ساعات، في المناظرة التلفزيونية التي جمعته مع عدة متنافسين للفوز بالترشيح، من أجل دخولهم ماراثون التسابق الانتخابي.
جاءت مواقف المتسابق نحو البيت الأبيض، لتؤكد أن «أمراء الظلام» في قيادات الحزبين الأساسيين في الحياة السياسية الأمريكية، يرسمون سياساتهم، ويطلقون تصريحاتهم، عبر عقود عديدة، كتعبير عن الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني العدواني على أرض فلسطين، ليس بسبب التطابق- شبه المطلق- بين أطماع المركزالإمبريالي ودور/ وظيفة، قاعدته المتقدمة في الوطن العربي، بل انطلاقاً من الفكرة/ النظرية التي أسست لحملات استعمار «العالم الجديد» على أساس «استبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة». ولهذا فإن التنفيذ العملي لهذه النظرية، داخل القارة الأمريكية، أدى بحسب الدراسة الهامة والاستثنائية، المدعمة بالوثائق، والتيتضمنها كتاب «أميركا والإبادات الجماعية» للدكتور «منير العَكش»، لإبادة 112 مليون هندي أحمر، ينتمون لأكثر من أربعمئة شعب، لم يبق منهم بحسب بعض الإحصاءات سوى ربع مليون فقط! وقد فضحت تلك الوثائق أساليب الغزاة في حملات الإبادة تلك: عمليات القتل والإعدام المباشرة بـ«الرصاص والبارود»،خطط التهجير القسرية «قانون الترحيل بالقوة– رحلة الدموع»، والحروب الجرثومية الشاملة خلال القرون الأربعة المنصرمة «أوبئة: الجدري، الطاعون، الحصبة، الأنفلونزا، السل والدفتريا والكوليرا والتيفوس» وحادثة توزيع البطانيات المسمومة بجراثيم الجدري كما كشفتها «الوثيقة التي حملت أوامر اللورد أمهرستإلى الكولونيل بوكيه» تحمل الدليل الدامغ على وحشية تلك الأساليب.
إن معرفة تلك الوقائع ضرورية، لسبر غور القاعدة النظرية/ الأيديولوجية التي يستند عليها «غينغريتش»، المتخصص الأكاديمي في التاريخ، وذلك من أجل الوصول إلى استنتاج موضوعي، يسلط الضوء على جزء من التاريخ الذي يوضح حقيقة «تصنيع شعب» على أساس «إبادة شعوب، أصيلة، وموغلة بالقدم، بوجودهاالمادي وثقافتها الواسعة». إن الذي تم «اختراعه» على الأرض الأمريكية، قام على مذابح لأصحاب الأرض الأصليين، لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلاً.
وبتشابه متعدد الأوجه، تم «اختراع الشعب اليهودي» من الحركة الصهيونية/ الاستعمارية/ الاجلائية، التي استهدفت «تطهير» أرض فلسطين التاريخية، من أصحابها الأصليين، ليس بحسب دراسات وأبحاث المفكرين والكتاب العرب، والحفريات الأثرية التي دعمت تلك الأبحاث. بل بحسب ما نشره مؤخراً «شلومو ساند»الأكاديمي في الجامعات «الإسرائيلية» في كتابه «اختراع الشعب اليهودي». ليس صحيحاً، أن غينغريتش جاهل بتاريخ المنطقة العربية، كما يحاول البعض تخفيف أثر مواقفه. إن كلامه، جزء من حملة تزوير مقصودة للوقائع، وفي الجزء الآخر- وهو الأهم في حملته الانتخابية- محاولة استجداء للصوت اليهودي، لأنالطريق للبيت الأبيض يجب أن يكون مفروشاً بالمواقف العنصرية، البشعة، الحاقدة والعدوانية، تجاه الشعب الفلسطيني وقضايا الأمة العربية التحررية.
إن دارس التاريخ القديم في منطقة شرق البحر المتوسط، يعرف تمام المعرفة، أن الشعب الفلسطيني، ينتمي لجماعة بشرية قديمة/ قبيلة «اليبوسيين»، التي أقامت في القدس قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهي من الكنعانيين. ولذلك فإن عمليات تزييف التطور التاريخي، لخدمة الأغراض السياسية الانتهازية، من خلالعمليات تضليل، استفزازية، ستصطدم بالحقائق البشرية، والتي تجسدت بحياة اجتماعية وعلاقات اقتصادية، تؤكدها الدراسات التاريخية للمنطقة.
إن إعادة التكرار الممجوجة للصق تهمة «الإرهاب» بالنضال التحرري للشعب الفلسطيني، ليست بضاعة جديدة يطرحها غينغريتش في سوق المزايدات الرخيصة، لكل متملق للصوت اليهودي في الانتخابات الأمريكية، بل هي ركن أساسي تقوم عليه سياسة الحزبين الكبيرين المتنافسين، في السياسة الدولية. ولهذا فإنتداولها الدائم في خطابات أولئك السياسيين، لم يعد يثير لدى أبناء الشعب الفلسطيني، سوى السخرية، من كل من يتشدق بها.
لقد أدت السياسات الإمبريالية، التوسعية، القائمة على الهيمنة، والاستئثار بالمواد والأسواق، لتصنيع مادة لاصقة لتجميع كتلة بشرية، يشكل الدين أهم القناعات المشتركة لديها. ومن هذا المنطلق، قامت الأفكار/ الايديولوجيا الصهيونية، باختراع الشعب اليهودي على أرض فلسطين، عبر كيان تتحدد وظيفته في المنطقة، علىضوء سياسة الهيمنة الاستعمارية، التي يقررها المركز الإمبريالي. ولهذا فإن تشديد النضال العالمي والمحلي ضد الإمبريالية، هو شكل من أشكال المواجهة مع الكيان المُصَنَع، بفعل الغزاة وحروب جيوش الإمبرياليين وفي المقدمة، الثكنة العسكرية التي يشغلها، الشعب المُخْتَرَع، وأدواتهم العميلة في المنطقة.
إن الكيان المصنع، والشعب المخترع، مصيره إلى زوال، بفعل نضال الشعوب صاحبة الأرض. إنهم، كما يقول الشاعر المبدع، الراحل «محمود درويش»:
«أيها المارون بين الكلمات العابرة، كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة وانصرفوا»