من واشنطن إلى دمشق... طموح ماليزيا السورية بين الحلم والإصلاح السياسي

من واشنطن إلى دمشق... طموح ماليزيا السورية بين الحلم والإصلاح السياسي

بين وعود واشنطن وواقع دمشق: تصريح وزير المالية السوري يشعل الجدل حول حدود الطموح وإمكانات التعافي.
«خمس سنوات إلى ماليزيا»؟ حلم جريء في مواجهة عقوبات خانقة واقتصاد يئنّ تحت الركام.
القطاع الخاص يتقدّم... لكن إلى أين؟ جدل حول دور الدولة والقطاعات السيادية في زمن الخصخصة.
الإصلاح لا يعيش في العزلة: كيف يتحول الطموح الاقتصادي إلى واقع دون حل سياسي شامل؟
من قاعة المفاوضات تبدأ النهضة: لماذا تبقى السياسة المفتاح لكل إصلاح مالي حقيقي في سورية؟

هل يقود طموح وزير المالية نهضة ممكنة أم وعوداً مؤجلة؟

في واشنطن، وخلال مشاركته في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بتاريخ 16 تشرين الأول 2025، أطلق وزير المالية محمد يسر برنية تصريحات أثارت موجة واسعة من الجدل، حين قال إنّ سورية قادرة على أن «تصل إلى مستوى ماليزيا خلال خمس سنوات» إذا ما نجحت الإصلاحات الاقتصادية والمالية الجارية.

وفي حديثه عن رؤية الحكومة، أكد الوزير على الاعتماد على القطاع الخاص كرافعة رئيسية للتنمية، معلناً أن الدولة لن تموّل أي مشروع لا يشارك فيه هذا القطاع، في إشارة إلى تبني نهج الإصلاح الذاتي والاستغناء عن انتظار التمويل الدولي المشروط.

لكن خلف هذا الخطاب الطموح تبرز أسئلة واقعية حول قدرة الاقتصاد السوري، في ظل ظروفه الحالية، على تحقيق قفزة تنموية بهذا الحجم دون تغيير سياسي جذري يهيِّئ الأرضية اللازمة للنمو.

بين الإصلاح الذاتي ودور الدولة... التوازن الصعب

يعكس حديث الوزير توجهاً جديداً داخل الحكومة يقوم على فكرة أن الإصلاح من الداخل هو الطريق الوحيد للخروج من الأزمة، بعيداً عن الشروط القاسية للمؤسسات الدولية. هذه المقاربة تحمل في طياتها بعداً سيادياً مهماً، لكنها في الوقت ذاته تطرح تحديات حقيقية تتعلق بتحديد حدود دور الدولة في الاقتصاد.

فالتحول نحو القطاع الخاص لا يعني بالضرورة انسحاب الدولة من المشهد الاقتصادي، بل يفرض عليها إعادة تعريف وظيفتها ودورها لتصبح ميسّرة ومحفزة، من دون التفريط في القطاعات السيادية مثل الطاقة والكهرباء والمياه والاتصالات والنقل العام.

تلك القطاعات تمثل الركيزة الأساسية للأمن الاقتصادي والاجتماعي، وأي تفريط فيها ضمن نماذج الخصخصة المباشرة أو غير المباشرة قد يحولها إلى بؤر احتكار تضر بالمصلحة الوطنية وتضعف قدرة الدولة على إدارة التنمية بعدالة وكفاءة.

طموح ماليزيا وواقع الحرب... الفجوة العميقة

اختيار ماليزيا كنموذج تنموي ربما ليس عفوياً، فهو قد يحمل رسالة أمل للمواطنين والمستثمرين على حد سواء. إذ يبدو أن الحكومة تسعى إلى بثّ الثقة واستعادة رؤوس الأموال السورية المهاجرة، وتقديم صورة لبلد قادر على النهوض رغم الصعوبات.

غير أن الطموح «الماليزي» يصطدم بواقع اقتصادي وسياسي بالغ التعقيد. فالبيئة الاستثمارية في سورية ما زالت رهينة الانقسام الجغرافي والسياسي بين مناطق نفوذ متعددة، وهو ما يعيق حركة التجارة والإنتاج ويجعل أي استثمار واسع النطاق محفوفاً بالمخاطر.

إضافة إلى ذلك، تقيد العقوبات الدولية، وخاصة قانون قيصر، قدرة البنوك والشركات الأجنبية على التعامل مع سورية، ما يقلل من فرص تدفق رؤوس الأموال اللازمة لإعادة الإعمار. وحتى المشاريع المحلية تظل محدودة التأثير في ظل غياب التمويل المستدام وضعف القوة الشرائية للسوق الداخلية.

على الصعيد الاجتماعي، تستمر أزمة المعيشة والتضخم في الضغط على المواطنين، إذ تجاوزت نسب الفقر حدود 90%، فيما يتواصل نزيف الكفاءات ورؤوس الأموال إلى الخارج، ما يعني فقدان أهم عناصر «التحول الماليزي» الذي يبني عليه الوزير آماله.

غياب اليقين القانوني... الخطر الصامت على الاستثمار

لا يمكن لأي خطة إصلاح اقتصادي أن تنجح دون بيئة قانونية شفافة تضمن الحقوق وتحمي الملكية. فالمستثمر، سواء كان محلياً أم مغترباً، يبحث قبل كل شيء عن الاستقرار القانوني والسياسي.

في الحالة السورية، يواجه هذا المبدأ تحدياً كبيراً بسبب هشاشة المنظومة القضائية والبيروقراطية، وانتشار الفساد الذي يرفع تكاليف الاستثمار ويقوّض الثقة في أي شراكة محتملة بين القطاعين العام والخاص.

كما أن غياب الضمانات الكافية لحماية الملكية يجعل أي مشروع عرضة للتقلبات في القرارات والسياسات، ما يدفع الكثير من رؤوس الأموال إلى البقاء في الخارج أو البحث عن أسواق أكثر أماناً.

الحل السياسي مدخل لا غنى عنه لأي تعافٍ اقتصادي

رغم أن خطاب الإصلاح المالي يحمل طابعاً طموحاً، إلا أن أي نهضة اقتصادية حقيقية في سورية تبقى رهينة الحل السياسي الشامل. فدون تسوية تضع حداً للانقسام الداخلي وتعيد توحيد مؤسسات الدولة، سيظل الاقتصاد السوري في دائرة الركود والمخاطر.

الحل السياسي هو الذي يمهّد الطريق لرفع العقوبات أو تخفيفها، ويفتح قنوات التمويل الدولي أمام مشاريع إعادة الإعمار، كما يسمح بتوحيد السوق الوطنية وضمان حرية الحركة والتجارة بين مختلف المناطق.

إضافة إلى ذلك، فإن الاستقرار السياسي يتيح تطبيق إصلاحات قانونية عميقة تضمن سيادة القانون واستقلال القضاء، وهو ما يشكل القاعدة الأولى لبناء بيئة استثمارية جاذبة تعيد الثقة بين الدولة والمواطن والمستثمر.

طريق النهضة يبدأ من السياسة لا من الأرقام

إن تصريحات وزير المالية تمثل إعلان نوايا إصلاحية تستحق الاهتمام، لأنها تعبّر عن رغبة في كسر الجمود والانفتاح على القطاع الخاص وإطلاق مسار التعافي.

لكن الطموح الاقتصادي، مهما بدا واقعياً في الخطاب، يظل رهناً بتغير جذري في البيئة السياسية والأمنية. فالإصلاح المالي لا يمكن أن ينجح بمعزل عن إصلاح سياسي شامل يعيد الثقة ويمنح الدولة القدرة على قيادة التحول دون التفريط في القطاعات السيادية أو ترك مصيرها لآليات السوق وحدها.

الطريق نحو «ماليزيا سورية» لا يبدأ من الأرقام والمؤشرات، بل من المصالحة الوطنية والسياسية التي تضع الأسس لاقتصاد متوازن، يحمي المواطن، ويستعيد دور الدولة كضامن للتنمية والعدالة في آن واحد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248