الحرائق في سورية... اشتعال الغابات بين الجفاف، الإهمال، والافتعال
شهدت سورية خلال العقود الماضية تصاعداً خطِراً في وتيرة الحرائق التي طالت غاباتها وأحراشها وأراضيها الزراعية، لكن الظاهرة تحولت إلى أزمة وطنية خلال سنوات الحرب والأزمة، بالتوازي مع تفاقم الجفاف وغياب الخطط الوقائية.
وخلال الأسبوع الماضي فقط، اندلعت حرائق هائلة في غابات كسب، محمية الفرنلق، جبل التركمان وعدة قرى مجاورة في ريف اللاذقية، مما أدى إلى إغلاق طريق كسب وامتداد النيران إلى مناطق واسعة في ظل طقس حار وجاف للغاية.
لكن الأخطر من ذلك، أن عدداً من هذه الحرائق– كما أظهرت التحقيقات المحلية وتقارير إعلامية، على زمن سلطة النظام البائد والآن– ليست طبيعية بالكامل، إذ يُشتبه في افتعال بعضها بدوافع اقتصادية أو عسكرية أو حتى انتقامية، ما يضيف بعداً أمنياً وبيئياً خطِراً للأزمة.
تراجع الغطاء النباتي... المسبب والنتيجة
تدمر الحرائق سنوياً آلاف الهكتارات من الغابات، فتفقد التربة ظل الأشجار وتتبخر الرطوبة، ما يؤدي إلى تسارع التصحر وتراجع التنوع الحيوي. في المقابل، يؤدي الجفاف المستمر منذ أكثر من 15 عاماً، وارتفاع الحرارة، إلى تحويل الغطاء النباتي الجاف إلى وقود مشتعل، مما يزيد من احتمال نشوب الحرائق الطبيعية.
لكن في حالات كثيرة، لا تكون الطبيعة هي السبب الوحيد. إذ سُجل في عدة مناطق، خاصة القريبة من خطوط التماس أو مناطق الاستثمار الزراعي والسياحي، اندلاع حرائق بطريقة متزامنة وغير مبررة مناخياً، ما يدعم فرضية الافتعال.
حجم الكارثة بالأرقام
تشير المعطيات المجمعة من مصادر رسمية، وتقارير دولية، وصور أقمار صناعية إلى أن سورية فقدت خلال العقود الثلاثة الماضية ما يزيد عن 250,000 هكتار من الغابات والأراضي الحراجية والزراعية نتيجة الحرائق المتكررة.
وحدها سنة 2019 شهدت واحدة من أسوأ الكوارث البيئية، حيث احترقت نحو 893,660 هكتاراً، أي ما يعادل نحو 4,8% من مساحة سورية، بحسب دراسة منشورة في مجلة Earth Interactions.
أما في 2020، فبلغت المساحات المحروقة نحو 354,230 هكتاراً، وفق تقديرات مستندة إلى بيانات الأقمار الصناعية.
بين عامي 2008 و2018، دُمرت نحو 130,000 هكتار من الغابات، وفقاً لنظام EFFIS التابع للاتحاد الأوروبي.
وفي سنوات الحرب، بين 2010 و2019، تم فقدان نحو 63,700 هكتار من الغابات، حسب تقرير مركز الأبحاث البيئية في كاتالونيا (CREAF).
أما البيانات المحلية، فتكشف أن الفترة بين 2010 و2016 شهدت أكثر من 3,600 حريق أتت على 21,500 هكتار من الأراضي الحراجية والزراعية.
الافتعال... دوافع متعددة لحرائق متعمدة
تشير تقارير محلية وشهادات من سكان القرى إلى أن بعض الحرائق في سورية خلال السنوات الماضية، وبينها حرائق صيف 2025، قد تكون مفتعلة لأسباب عدة، منها:
أسباب اقتصادية، للاستفادة من أراضي الغابات بعد حرقها لتحويلها إلى أراضٍ زراعية أو مشاريع عمرانية أو استثمارية، بالإضافة إلى التفحيم والتحطيب.
أسباب عسكرية، عبر إحراق الأحراش قرب خطوط التماس لتقليل إمكانية التخفي أو التسلل، أو لإفراغ مناطق جبلية استراتيجية من السكان.
أسباب أمنية أو انتقامية، بإشعال النيران عمداً في أراضٍ زراعية بغرض الانتقام الشخصي أو العقاب الجماعي، أو لتصفية نزاعات محلية عبر إحداث أذى بيئي مباشر.
الإهمال وسوء الإدارة، كترك بقايا نيران مشتعلة أو نفايات قابلة للاشتعال في مناطق حراجية، أو حرق الأعشاب أو النفايات الزراعية بطريقة غير منظمة.
هذه الدوافع تشير إلى وجود بعد جنائي وإداري خطِر خلف كثير من الحرائق، ما يستدعي معالجة أمنية وقضائية صارمة إلى جانب الحلول البيئية.
النتائج السلبية... بيئية، اقتصادية، واجتماعية
بيئياً: فقدان الغابات يؤدي إلى تدهور التربة، وزيادة الانجراف، وتهديد التنوع الحيوي. الحرائق الأخيرة التهمت أجزاء من محمية الفرنلق الطبيعية التي تُعد من أغنى مناطق البلاد بالأشجار والأنواع البرية.
اقتصادياً: خسائر فادحة في الأراضي الزراعية والأشجار المثمرة، وانقطاع مصادر الرزق لعائلات بأكملها.
اجتماعياً وأمنياً: تسبب الحرائق المتعمدة حالة من الشك والعداء بين المجتمعات المحلية، ونزوحاً قسرياً في بعض القرى الجبلية المحترقة.
التأثير المتبادل بين الجفاف والحرائق
تشكل الحرائق المتكررة، سواء كانت طبيعية أو مفتعلة، عاملًا حاسماً في تسريع آثار الجفاف. وفي الوقت نفسه، يؤدي الجفاف إلى زيادة هشاشة الغابات وجفافها، مما يجعلها أكثر عرضة للاندلاع.
هذه العلاقة التبادلية تصنع دائرة مغلقة، يفاقمها غياب إدارة علمية فعالة أو سياسات ردع فاعلة.
فالحرائق تؤدي إلى تدمير الغطاء النباتي الذي يحافظ على رطوبة التربة، ويشارك في تكوين الأمطار عبر إطلاق بخار الماء، وبالتالي تتفاقم حدة الجفاف.
إن هذا التفاعل السلبي المتبادل يهدد التوازن البيئي في سورية، ويجعل من السيطرة على كلتا الظاهرتين أكثر صعوبة عاماً بعد عام.
مقترحات عملية لمعالجة الأسباب والنتائج
بداية يجب التركيز على مواجهة الجفاف من خلال: تبنّي نظم ري حديثة تحد من الهدر وتزيد كفاءة استخدام المياه- حصاد مياه الأمطار عبر السدود الصغيرة والخزانات الريفية- زراعة محاصيل مقاومة للجفاف والاعتماد على الدورة الزراعية المناسبة- رفع الوعي البيئي بأهمية ترشيد المياه عبر الإعلام والمدارس.
بالإضافة إلى ذلك من الهام:
- كشف أسباب الحرائق بدقة عبر لجان مختصة، وفصل الطبيعي منها عن المتعمد.
- تعزيز الأدوات القانونية لتجريم الإشعال المتعمد وتشديد العقوبات.
- إنشاء حواجز وقائية وممرات نارية بين الغابات والقرى.
- تحسين معدات الإطفاء وتوزيعها جغرافياً لتغطية المناطق الحساسة.
- برامج توعية مجتمعية تشمل المدارس والمزارعين.
- إطلاق مشاريع إعادة تشجير مجتمعية بمتابعة أهلية وحكومية.
- اعتماد تقنيات الإنذار المبكر عبر الأقمار الصناعية والربط اللحظي مع فرق الدفاع المدني.
دور الدولة المطلوب
يتعين على الدولة مواجهة ملف الحرائق باعتباره ملفاً أمنياً واقتصادياً وبيئياً في آن واحد، وذلك من خلال:
- تخصيص موارد مالية كافية للوقاية والمكافحة.
- مراجعة خرائط الغابات وتحديثها رقمياً.
- محاسبة مفتعلي الحرائق بوسائل قانونية شفافة.
- تعزيز العمل مع المجتمع المحلي كشريك في الوقاية والرصد والمساءلة.
الحاجة لاستراتيجية وطنية متكاملة
الحرائق في سورية لم تعد مجرد كوارث طبيعية موسمية، بل تحولت إلى أزمة بيئية وأمنية متشابكة، خاصة حين تتداخل دوافع الجفاف والإهمال مع الافتعال المتعمد. وتبقى سورية بحاجة ماسة إلى استراتيجية وطنية طويلة الأمد ومتكاملة تجمع بين البيئة، القانون، والإدارة المجتمعية لكسر هذه الحلقة، وإنقاذ ما تبقى من غاباتها ومقدراتها الطبيعية.
فحماية الغابات والمياه ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لضمان مستقبل آمن بيئياً وغذائياً واقتصادياً للأجيال القادمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1233