أطفال سورية المشردون... فشل للدولة لا تبرره الأزمات
فرح شرف فرح شرف

أطفال سورية المشردون... فشل للدولة لا تبرره الأزمات

أفرز النظام السائد والوضع الاجتماعي والاقتصادي طوال السنوات الماضية، وما ترتب جرّاء سني الحرب والأزمة، عدّة ظواهر اجتماعية سلبية ومشوّهة، يغيب عنها في المقام الأول دور الدولة بوصفها راعية للمجتمع.

وليست ظاهرة تشرد الأطفال وافتراشهم الشوارع والحدائق العامة وليدة اليوم، لكنها باتت فاقعة وأخذت بالازدياد بوتيرة أعلى خلال الأشهر الماضية، بحيث باتَ من الصعب تجاهل عواقبها على مستقبل الأطفال والمجتمع وحتى الدولة.

مشاهد الوجع باتت مألوفة

في زوايا العاصمة دمشق، وعلى أرصفة شوارعها التي كانت يوماً تنبض بالحياة، بات مشهد الأطفال النائمين تحت السماء المكشوفة مألوفاً حدَّ الوجع.

أجساد صغيرة تفترش الأرصفة والحدائق العامة، تئنّ بصمت من وطأة الفقر والتشرد، وقد سرقت سنوات الحرب والأزمة منهم دفء الأسرة وسقف الأمان.

وفي ضواحٍ مكتظة كجرمانا، تتقاطع براءة الطفولة مع قسوة الواقع، لتولد صورة موجعة عن وطن أنهكته الأزمات، حتى بات أطفاله يلتمسون النوم بين ضجيج الشارع وبرودة الليل، كأنهم بلا وطن يحتضنهم ولا غد يعدهم بفرصة أفضل.

إنّه واقع بائس لا يليق بأحد، فكيف بأطفال هم مستقبل هذا البلد؟

أساس الأزمة

لعبت السياسات الاقتصادية الليبرالية التي اتبعتها سلطة الأسد، وتوحش هذه السياسة خلال سنوات الأزمة، على تدمير البنى الاقتصادية، وتفتيت النسيج الاجتماعي.

فقد أدت هذه السياسات، والتي ما زالت مستمرة إلى اليوم بعناوين السوق الحر والخصخصة والتنافسية، إلى إهمال قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة، وعمّقت من ظواهر الفساد والنهب، وهو ما انعكس سلباً على الغالبية العظمى من السوريين، وبالأخص العائلات المفقرة وذات الدخل المحدود.

وقد تجلّى التأثير المدمر لهذه السياسات في تآكل الطبقة الوسطى وتهميش الطبقات الفقيرة، حيث فقدَت العديد من العائلات مصادر رزقها بينما تشّرد قسم كبير منها. ومع إزالة الدعم التدريجي وارتفاع الأسعار، باتت الحياة اليومية عبئاً ثقيلاً على الأسر.

ولم تقتصر تداعيات هذه السياسات على الجانب الاقتصادي فقط، بل شملت الجانب الاجتماعي والنفسي، وما نتج عنه من تفكك للأسرة، وخلفها جيل من الأطفال المحرومين من التعليم والصحة؛ فالأسرة ليست كياناً معزولاً عن محيطها الاقتصادي والاجتماعي، وستبقى تعيش في حالة من الضعف والتهديد ما لم يتم توفير بيئة تُبعد عنها شبح الفقر.

ظواهر متشابكة

تشابكت مع ظاهرتيّ تشرد وعمالة الأطفال ظاهرة التسرب المدرسي، ليشكلوا معاً حلقة مفرغة تحرم الأطفال من حقهم الأساسي و«الملزم» في التعليم، لتكرّس الفقر والجهل، في حين فاقم الدمار الذي طال البنى التحتية، بما فيها المدارس، وانهيار الاقتصاد، وغياب الدولة، من حاجة الأطفال إلى إعالة أسرهم التي فقدت معيلها بسبب الموت أو العجز.

وفي هذا السياق، ابتعد الأطفال عن الأسرة بوصفها ملاذاً آمناً ومصدراً للحماية، وتحولوا إلى عمالة هامشية مبكرة وفرصة استغلال، نتيجة الأعباء الاقتصادية الواقعة على كاهل الأسر، وفي ظل غياب دور الدولة الداعم.

اقتصاد الشارع الهامشي

يكرّس اقتصاد الشارع الهامشي حالة الاستغلال، خاصة المتعلقة بالأطفال. فقد تحول الأطفال إلى «بضاعة» نتيجة استمرار منطق السوق الحر الذي يجد في هؤلاء مجالاً خصباً لتعظيم الأرباح، فحيث تغيب رقابة الدولة ودور الأسرة يصبح الأطفال ضحايا لشبكات استغلال منظمة.

فغالباً ما يكون التسول تحت سيطرة شبكات تستغل تشرد الأطفال وحاجتهم إلى الحماية، وتحوّل عَوزهم إلى مصدر دخل يُسلب منهم ليموّل جيوب القائمين على هذه الشبكات. أو يجبر الأطفال على مزاولة أعمال لا تتناسب مع عمرهم وقدراتهم الجسدية ما يعرضهم لأخطار صحية خطِرة، بالأخص من يعمل منهم في جمع الخردة والنبش في القمامة.

وفي غياب البدائل يجد بعض الأطفال أنفسهم في دائرة الجريمة، ويتم استغلالهم في السرقة أو نقل المخدرات، وهذه الأنشطة لا تدمر طفولتهم فحسب، بل تحكم عليهم بمستقبل مظلم يصبح الخروج منه شبه مستحيل. بينما يقعون هم أنفسهم ضحية إدمان على مواد مخدرة رخيصة ومتوفرة، مثل «الشعلة»، كوسيلة للهروب من واقعهم القاسي، بالإضافة إلى أنها تجعل من استغلالهم واستمرار تبعيتهم أمراً يسيراً، وتحدُّ من قدرتهم على التفكير.

فشل الدولة وجيل ضائع

يزداد تعقيد وتعمق ظاهرة تشرد واستغلال الأطفال، وتشابكها مع بقية الظواهر السلبية، في ظل استمرار انتهاج الدولة لسياسات اللبرلة والخصخصة والبحث عن الربح السريع، وإهمال ضرورة إعادة إقلاع عجلة الإنتاج، الذي من دونه لا يمكن للمجتمع أن يعيد بناء نفسه ويحقق استقراراً، ويبقى الأطفال الحلقة الأضعف، في ظل انعدام الاستقرار، وقوداً لاقتصاد الظل والظلم، وعن سبق إصرار!

فما لم يتم تغيير السياسات الاقتصادية وتوجيهها نحو العدالة والإنتاجية، فإن البلاد ستبقى أسيرة حلقة مفرغة من الظواهر السلبية المترابطة والمولدة لبعضها، وستستمر في إفراز أجيال من الأطفال المشردين الذين يعيشون على هامش الحياة.

فمشهد الوجع المألوف ليس مجرد نتاج ظروف عابرة، بل هو انعكاس صارخ لفشل الدولة في تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة لمواطنيها، وفي مقدمتهم الأطفال.

فأن ينام الصغار على الأرصفة وتحت الأشجار، هو دليل مؤلم على غياب سياسات الحماية والرعاية، وعلى انهيار مؤسسات يُفترض أن تكون حصناً للفئات الأضعف. إنه فشل لا تبرره الأزمات، بل تفضحه قسوة النتائج.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1233