نحو هوية تسبق البصر
في لحظة دقيقة من تاريخ سورية، تتقدّم السلطة الانتقالية بمشاريع تسويقية طموحة، أبرزها إطلاق «هوية بصرية جديدة» للدولة.
ألوان موحدة، شعارات حديثة، ونبرة ترويجية تتحدث عن سورية «متجددة»، «متفائلة»، و«واعية بصورتها أمام العالم».
لكن هذا الإبهار البصري، بكل ما يقدمه من جاذبية، يقف على أرضية رخوة، ما دامت الهوية الوطنية الجامعة لم تُبنَ بعد، وما دامت الأسئلة الكبرى حول وحدة الدولة والسيادة والعدالة لم تُطرح بجدية.
صورة بلا مضمون
ليس في الهوية البصرية خلل بحد ذاتها، رغم تباين الآراء حولها، بما في ذلك المشروعية القانونية حول صلاحيات السلطة بإقرارها، فهي أداة تواصل رمزية مهمة في مسار إعادة بناء الدولة.
غير أن الاستثمار المفرط فيها، مقابل تجاهل الأسس الاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها الهوية الوطنية، يكشف عن اختلال في سلم الأولويات.
كيف يمكن لدولة لم تحسم بعد مسألة التمثيل العادل، ولا تزال تعاني من فجوات الثنائيات الوهمية العميقة والقاتلة، أن تسوّق لواجهة وطنية بصرية موحدة؟
ما الذي يعنيه «شعار رسمي» في بلد لا يزال أبناؤه يختلفون على موقعهم على خريطة الولاء والانتماء؟
هوية وطنية مأزومة
الواقع السوري اليوم لا يحتمل التجميل. فالهوية الجامعة التي يُفترض أن توحد المواطنين حول مشروع وطني وسياسي وأخلاقي واحد، لا تزال هشة ومبعثرة.
فالسلطة، رغم وعودها بالحوار والدستور، أخفقت حتى الآن في طرح خطاب جامع يواجه إرث الانقسام ويعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة المتساوية.
المكونات الدينية والعرقية لا تزال تشعر بالتهميش، والشباب يعاني من انقطاع وجداني عن وطن لم يعرفه إلا في سياق الحرب أو النزوح أو القمع.
لا يكفي أن نرسم علماً جديداً أو نطلق حملة إعلامية، ما لم يُقرن ذلك بمشروع حقيقي لإعادة تعريف «السوري» بما يتجاوز القومية والدين والمذهب والقبيلة والمناطقية.
وحدة الدولة لا تُبنى بالألوان
في مناطق عدة من البلاد، تُمارس سلطات محلية أمراً واقعاً، تتحفظ على الاندماج الكامل، وعلى هوية المركز. ففي ظل غياب هوية جامعة، تغدو السيادة هشة، والوحدة الشكلية للدولة مهددة بالتآكل التدريجي.
ما لم تبادر السلطة الحالية إلى تأسيس هوية وطنية تشاركية، تُنصف الضحايا، وتحتوي جميع المكونات على قاعدة المساواة والعدالة، فإن كل شعار جديد سيظل صورة معزولة عن واقع ممزق.
نحو هوية تسبق البصر
سورية اليوم بحاجة إلى ما هو أبعد من حملة تصميم. تحتاج إلى مؤتمر وطني عام وشامل، يُعيد الاعتبار للعملية السياسية الجامعة، ويؤسس لحوار سياسي ومجتمعي جريء يعيد دمج وصهر الهويات ما قبل الوطنية ضمن هوية سورية واحدة، لا تلغي التنوع بل تعترف به وتحتويه.
هذا المؤتمر يجب أن يُنتج دستوراً جديداً يضمن وحدة البلاد وسيادتها، ويؤسس لعدالة اجتماعية وتعددية سياسية.
ومن هذا الدستور، تنطلق عملية انتخابية حرة تفرز حكومة وطنية تمثل الإرادة الشعبية، وتلبي طموحات السوريين في العدالة، الكرامة، والاستقرار. بعدها فقط، يصبح الاتفاق على الهوية البصرية للدولة أمراً طبيعياً، بل مبرراً. إذ إن الاحتفاء بالشكل لن يكون حينها هروباً من الواقع، بل تعبيراً عنه.
التجميل لا يُنقذ البناء
الخطورة ليست في استخدام أدوات الإبهار البصري، بل في استبدالها بالمضمون. حين تصبح «الصورة» هدفاً بذاتها، وتُقدم بوصفها إنجازاً وطنياً، فإننا نعيد إنتاج منطق السلطة القديمة، عبر تسويق الشكل وتجاهل الجوهر.
بلا عمق وطني حقيقي، لا تحمل الهوية البصرية أي قيمة رمزية. بل قد تتحول إلى غطاء لفراغ سياسي واجتماعي، أو محاولة لصياغة انتماء زائف لا يحاكي الواقع ولا يستجيب لتحدياته.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1233