سياسات نقدية مشوَّشة... من يدفع الثمن؟

سياسات نقدية مشوَّشة... من يدفع الثمن؟

في زيارة رسمية إلى محافظة درعا بتاريخ 14 حزيران 2025، صرّح وزير المالية، محمد برنية، بأن هناك توجهاً واضحاً لدى المصرف المركزي لاعتماد سياسة مالية تهدف إلى «تثبيت سعر الصرف» وتسهيل بيئة الاستثمار.

يُروَّج لهذا التوجه كخطوة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي، إلا أن الحديث يغيب تماماً عن تفاصيل وآليات التنفيذ، وسط أزمة ثقة مستمرة مع المواطن، الذي بات يعلم جيداً من المستفيد الحقيقي من هذه «الاستثمارات» ومن السياسات التي تُبنى لأجلها.
ورغم تأكيد الوزير على أن هذه الخطوة تصبّ في «مصلحة الوطن والمواطن»، إلا أن الواقع يشي بعكس ذلك؛ إذ تفتقد هذه التصريحات لأي شرح حول انعكاس تثبيت سعر الصرف إيجاباً على معيشة السوريين، الذين يعيش معظمهم تحت خط الفقر، فيما تُربط هذه السياسات بوضوح بجذب رؤوس الأموال والاستثمار الخارجي.

تناقض وتخبّط في التصريحات الرسمية

لم تمرّ 48 ساعة على تصريحات وزير المالية حتى خرج محافظ مصرف سورية المركزي، عبد القادر حصرية، في مقابلة مع الفايننشال تايمز، ليعلن أن البلاد تتجه نحو «نظام تعويم مُدار» لسعر الصرف، وهو ما يتناقض جوهرياً مع ما تحدّث عنه برنية.
فبينما يُبشّر الأول بثبات سعر الصرف، يشير الثاني إلى تعويمه وفق آلية العرض والطلب، مع تدخل جزئي للمركزي لضبط التغيّرات الكبيرة.
فأيّ سياسة يتّبعها البنك المركزي فعلياً؟ وأيّ وعود على المواطن أن يصدّقها؟
هذا التضارب في الخطاب يعكس غياب استراتيجية واضحة، ويفتح الباب أمام شكوك مشروعة بشأن الجهة التي تُصاغ السياسات النقدية لأجلها، في وقت يغيب فيه أي تمثيل حقيقي لمصالح المواطن والصناعة المحلية والاقتصاد الوطني.

المركزي الغائب... والمضاربون يسيطرون

ما يزيد من خطورة الوضع هو أن المصرف المركزي، الذي يُفترض به أن يكون صمام أمان للاقتصاد، يبدو عاجزاً أو متفرجاً على تفاقم الأزمة.
فوفق التصريحات الرسمية، لا يمتلك المركزي احتياطياً كافياً من العملات الأجنبية يمكّنه من التدخل في السوق، كما لا يسيطر على الكتلة النقدية المتداولة، مما يُفقده أدواته الأساسية لضبط السوق.
في ظل هذا الغياب، يجد كبار المضاربين والسماسرة في السوق السوداء أنفسهم أصحاب القرار الحقيقي في تحديد سعر الصرف، بينما تُترك الصناعة والإنتاج والمواطن فريسة لتقلّبات غير منضبطة في الأسعار، وتدهور القوة الشرائية، وتزايد مستويات الفقر.

التثبيت... أم ربط العملة والتبعية؟

في ظل عجز الحكومة عن التدخل المباشر، يصبح الحديث عن «تثبيت سعر الصرف» مجرد شعار يُخفي وراءه اتجاهاً لتكريس ربط العملة الوطنية بالدولار أو سلة من العملات الأجنبية، ما قد يكرّس التبعية الاقتصادية ويقيّد السيادة النقدية.
فتطبيق سياسات شبيهة بسياسات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مثلاً، دون امتلاك الأدوات أو القدرة، لا يعني سوى مزيد من التقييد على سياسات الدولة، وتهميش أي إمكانية لمعالجة الأزمات بمقاربات محلية مستقلة.

تقشف، تضخم وتآكل ما تبقى من الأمل

من أجل «جذب المستثمر»، قد تلجأ الحكومة لتقليص ما تبقى من الإنفاق الاجتماعي، أو تكريس سياسة تجميد الأجور، حفاظاً على صورة مستقرة لسعر الصرف أمام الخارج، دون أدنى اعتبار للأثر الكارثي لذلك على الداخل.
وقد يقود هذا النهج أيضاً إلى مزيد من طباعة العملة دون غطاء، وهو ما سيُسرّع من وتيرة التضخم ويُنهك ما تبقى من الاقتصاد الحقيقي.

لا إصلاح دون إنتاج

محاولة امتصاص الغضب الشعبي بسياسات شكلية ومتناقضة لا تُعالج جذور الأزمة، بل تعمّق الفقر وتُعيد إنتاج الأزمات بأدوات قديمة.
وحدها العودة إلى اقتصاد إنتاجي حقيقي، مستقل عن الوصفات الجاهزة والتبعية للمؤسسات المالية الدولية، يمكن أن يُمهّد لطريق مختلف.
أما مصلحة المواطن، فلا تُقاس بالتصريحات، بل بمدى تحسّن الواقع المعيشي فعلاً، وهذا ما لا تضمنه السياسات الحالية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1231